أسامة شرشر يكتب: قمة جدة بين الإرادة العربية والتبعية الأمريكية
مما لا شك فيه أن القراءة المتأنية للأحداث ورياح التغيرات التى تحدث فى الشرق الأوسط والعالم العربى- لم تأت من خلال ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير والصغير، حسبما حاولت تنفيذه كونداليزا رايس والمخطط الجهنمى لتفكيك العالم العربى لدويلات؛ لتكون الحروب الأهلية هى القاسم المشترك فى البلدان العربية.
ولكن الجديد الآن ويحدث لأول مرة فى عالمنا العربى أن المتغيرات والتغيرات التى تحدث فى المنطقة تتم بأيادٍ عربية- عربية، بعيدًا عن الولاءات الأمريكية والصهيونية.
فقمة جدة العربية التى ستجرى خلال الأيام القادمة يوم 19 مايو الجارى، تسمى قمة التحديات الاستراتيجية للكيان العربى فى أخطر ملفين هما الملف السورى والملف السودانى، وهى قمة تجسد محاولة عودة الروح للأمة العربية.
فحضور الرئيس السورى بشار الأسد إلى الحاضنة العربية بعد غياب 12 عامًا يمثل نقلة عربية حقيقية فى المواقف، ما يؤكد أن الحكام العرب استشعروا الخطر، وأهمية حل الأزمة السورية بقرارات ورؤية عربية بعدما تجمدت لمدة 12 عامًا دوليًّا وإقليميًّا بفعل فاعلين.
والتحدى الثانى حتى لا تتكرر نفس مأساة سوريا والعراق واليمن، هو أحداث السودان، وحضور البرهان إلى القمة العربية هو بداية حل فتيل الأزمة السودانية، حتى لا يتحول الوضع إلى حرب أهلية تستغرق عشرات السنوات، وتهدد أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية، وتكون فرصة للأمريكان ليعبثوا بممرات الملاحة العالمية كما يريدون، وهو الأمر الذى يؤثر بشدة على قناة السويس.
فالانتباه من جانب الدول المحورية كمصر والسعودية والجزائر والكويت والإمارات والعراق لهذه الملفات الخطيرة- يعد بداية لخلق كيان عربى قوى ولوبى يواجه اللوبى الصهيونى وكل المخططات ومشاريع تقسيم المنطقة العربية.
وأنتهز الفرصة لأذكر القادة العرب بضرورة أن يتم اتخاذ قرار بعيدا عن التوصيات، ويكون قرارًا بالإجماع وليس التوافق، لإنشاء قوة ردع عسكرية عربية، ليس على الطريقة الإفريقية، ولكن على الطريقة العربية، وكما يقولون (أهل مكة أدرى بشعابها)، فالحل فى السودان يجب أن يكون سودانيًّا، كما كان الحل فى سوريا عربيًّا وليس دوليًّا.
وهذا ينقلنا إلى عودة الروح والقرارات التى أدهشت إسرائيل والأمريكان بعودة العلاقات السعودية الإيرانية، وكنت أتمنى كما طرحت منذ أكثر من عام، عودة العلاقات المصرية الإيرانية أيضًا وفورًا، لأن إيران لاعب إقليمى حقيقى ورئيسى وهى إحدى دول الجوار العربى.
والتساؤل المنطقى والشعبى والواقعى: كيف نقيم علاقات مع إسرائيل ولا نقيم علاقات مع إيران، أيًّا كانت الخلافات فى بعض الملفات وأسماء الشواع؟!.
فالأمن القومى العربى جزء من الأمن القومى الإقليمى للدول الفاعلة والمؤثرة فى المنطقة، ونحن نرى أوروبا وأمريكا وروسيا قد عقدت اتفاقية ومحادثات (5+1) مع إيران، لمدة سنوات، وتم تهميش الدول العربية، وهذه المفاوضات التى تُسمى بالمفاوضات النووية فى واقع الأمر كانت محاولة لصنع بُعبع جديد للدول العربية؛ حتى يتم سرقة نفطها وثرواتها، بحجة الحماية من هذا البعبع الإيرانى، وذلك بعدما فشلوا فى الترويج للصراع السنى الشيعى.
وأعتقد أن تصريح وزير الخارجية الإيرانى يعطى دلالة حقيقية عندما قال: نتمنى أن تعود العلاقات مع مصر؛ لأنها دولة محورية وهامة، وهذا ما كررناه وقلناه سابقًا، وهذا ليس تنبؤا سياسيًّا، ولكنه قراءة للواقع الدولى والتغيرات العالمية، خصوصًا بعد ظهور الصين لأول مرة فى الملف السياسى وليس الاقتصادى، كما كان يتم من قبل.
كل هذا يجرى بينما يقوم نتنياهو بقتل الأبرياء وتصفية الشباب من خلال صواريخ تفصل الجسد عن الرأس، ولا يقف أمامه إلا حركة الجهاد الإسلامى، أصغر فصائل المقاومة الفلسطينية، التى استطاعت بصواريخها إحداث شلل فى إسرائيل ومدنها ونشرت الرعب والخوف من اندلاع انتفاضة جديدة رغم محاولات تحييد حماس، وكل ذلك بسبب عدم استجابة نتنياهو للوسيط المصرى الذى يعرف خطورة ودلالة ما يجرى فى الأراضى المحتلة.
أما آن الأوان لأن يكون على مائدة وجدول أعمال قمة جدة ملف حل الدولتين تطبيقًا وترجمة لكل المواثيق الدولية؟ أم أن شلال الدم الفلسطينى سيحول المنطقة العربية إلى جحيم ويحرق الأخضر واليابس؟!.
وأخيرًا أرى أن عودة تركيا إلى الحاضنة العربية بعيدًا عن الاتحاد الأوروبى والأمريكان، أمر جيد جدًّا، فإجراء الانتخابات التركية التى تمثل صورة للديمقراطية الحقيقية، هز أركان الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الذين كانوا يتوقعون فشلًا ذريعًا لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، فكانت الانتخابات صورة حقيقية لمعنى الديمقراطية بالمفهوم التركى، وهى رسالة للقريب والبعيد أن الشعب التركى استطاع بحرية كاملة التصويت لمن يريد سواء من المعارضة أو الأغلبية، وهذا هو النموذج الديمقراطى الإسلامى الحقيقى الذى من المفترض أن يُعمَّم فى المنطقة العربية.
وأتوقع بل أؤكد أنه فى حالة فوز أردوغان فى جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية التركية بقرار من الشعب وليس أمريكا أو أوروبا، ستكون أول زيارة خارجية لأردوغان إلى القاهرة.
ومن هنا تكتمل منظومة دول الجوار بين مصر وإيران وتركيا والسعودية، فلا يمكن لعاقل فى هذا الزمن أن يتخيل حتى فى علم الخيال السياسى أو ما يُسمى بعلم الاستبداد، أن تتحالف مصر مع إسرائيل لضرب الشعب الإيرانى أو التركى أيًّا كانت الخلافات وأيًّا كانت الأزمات، لأنه مجرد أن هذه دول إسلامية فهذا يمثل الخط الأحمر الاستراتيجى لمصر التى تتعامل بمنتهى الحنكة والخبرة من خلال مدرسة الخارجية المصرية والدبلوماسية الحقيقية فى معرفة وفرز الشعوب والدول.
أتمنى أن تكون هذه التغيرات والمتغيرات الإقليمية والعربية، على مستوى الأحداث الدرامية التى تحدث فى العالم الآن، لأن الكل لا يحترم إلا لغة القوة اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وعسكريًّا، ونحن نمتلك الثروات والعقول والشباب الذى يستطيع أن يصنع المعجزات فى زمن اللامعجزات.
انتبهوا أيها الحكام العرب.. فالتساؤل الذى يدور فى عقل المواطن العربى من المحيط إلى الخليج: هل يتحقق المستحيل وتنتصر الإرادة العربية على التبعية الأمريكية ولو لمرة واحدة، ويحدث التقارب العربى الجمعى مع إيران وتركيا، ضربًا لكل المخططات الأمريكية والصهيونية فى منطقة الشرق الأوسط؟!.
وتذكّروا.. أن البقاء دائمًا للشعوب.. لأنهم ذاكرة وحماة الأوطان، وليس الأمريكان.
وشكر الله سعيكم.