أسامة شرشر يكتب: حكايتى مع المشير طنطاوى
لا شك أن الحديث عن المشير محمد حسين طنطاوى، أقدم وزير لدولة فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، ملىء بالحكايات والأساطير، لأن شخصية المشير طنطاوى كانت بعيدة عن الأضواء والإعلام رغم طول فترته التى استمرت أكثر من 20 عامًا وزيرًا للدفاع ثم رئيسًا للمجلس العسكرى الذى أدار مصر فى أصعب الظروف.
كانت شخصية المشير طنطاوى كما قيل (إنه سيد حل الأزمات فى هدوء وصمت)، وقد تعرض لما لم يتعرض له أى شخص إبان ثورة 25 يناير من التشكيك والشائعات والزعم بمحاولته الوصول لمنصب رئيس الجمهورية، وهذا عكس ما يعلمه كل من عرف الرجل، فهو كان رافضًا أو بالأدق زاهدًا فى المنصب، بل إنه عزل القوات المسلحة عن الصراع السياسى، قائلًا إن أعضاء المجلس العسكرى لن يترشحوا فى أى استحقاقات دستورية.. وأثبتت الأيام صحة كلامه والتزامه بما كان يعلنه.
وبدأت حكايتى مع المشير محمد حسين طنطاوى عندما كنت صحفيًّا فى البرلمان، وكان هذا الرجل حريصًا على أن يأتى للجنة الدفاع والأمن القومى، ويدلى برأيه فى أهم الأحداث المحيطة بمصر فى الخارج.. وما لا يعرفه الكثيرون أنه كان له صولات وجولات ومواقف فى مجلس الوزراء، أهمها عندما رفض رفضًا قاطعًا بيع بنك القاهرة لبعض المستثمرين، ورفض توجه ما يسمى «لجنة السياسات» التى كانت تهيمن على المشهد السياسى، ولها صلاحيات ونفوذ غير محدود، وقال قولته الشهيرة (لن نسمح بأن يتولى مسئولية كرسى مصر هؤلاء الهواة).. كما كان رافضًا ما تم فى بيع مصانع حديد الدخيلة، ومضابط مجلس الوزراء شاهدة على ذلك، وأثبتت الأيام والتجارب صدق ودقة موقفه وصحة رؤيته المستقبلية بعدما تعرضت البلاد والعباد لأحداث 25 يناير التى كنا فى غنى عنها.
وما فعله الرجل فى حرب أكتوبر ومواقفه البطولية شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء بعيدًا عن شارون وإخوته وما قاله الجانب الإسرائيلى.. وهذا يعطى دلالة وقراءة لشخصية المشير طنطاوى الذى كان يتجنب أى حديث عن شخصه وعن بطولاته وعن مواقفه.
وسأحكى موقفًا حدث معى عندما التقيت المشير طنطاوى فى مقر الأمانة العامة لوزارة الدفاع من خلال اللواء يسرى حسن، مدير مكتبه، وكانت هناك كارثة اقتصادية ستدمر الإسكندرية، بمحاولة الإخوان وبعض العناصر البدوية التابعة لهم الاستيلاء على مقر شركة سيدى كرير للبتروكيماويات (سيدبك) وحرقها، والتى كانت تصدِّر فى هذا الوقت منتجات بتروكيماوية بأكثر من مليار دولار، وتم ضرب محافظ الإسكندرية داخل الشركة، ولم يبق إلا العاملون فى الشركة برئاسة المهندس أسامة كمال –رئيس الشركة وقتها- ووزير البترول لاحقًا- ليكونوا دروعًا بشرية لحماية شركتهم، والحفاظ على الصرح البترولى.. وعندما تواصل العاملون معى، وأبلغت المشير طنطاوى قام على الفور بإرسال قوات عسكرية من المنطقة الشمالية العسكرية، وتم حصار الإخوان وتوابعهم وإنقاذ الشركة من هذا العمل الإجرامى الذى استهدف إحدى القلاع الاقتصادية فى مصر، وقال وقتها «إننا إذا لم نحافظ على أولادنا من العمال والمهندسين وعلى منشآتنا الاقتصادية فلا يحق لنا أن نكون مسئولين».
هذا الموقف يعطى دلالة خطيرة على أن الرجل كان يهتم بكل التفاصيل بل خلال اللقاء الذى استمر على مدار ساعتين كان يتابع الموقف التموينى للسلع مع الدكتور جودة عبدالخالق، وزير التموين، فى هذا الوقت، وكان يطمئن ويشعر بسعادة كبيرة عندما يجد الأمور تسير فى مسارها الطبيعى.
هذا الرجل كان يمتلك الكثير من المشاعر الوطنية الصامتة والمشاعر الإنسانية، إلا أن طبيعته كرجل عسكرى، وكنوبى أصيل من أبناء صعيد مصر، كان العمل والإتقان محور اهتمامه وليس الدعاية و(المنظرة).. وكل من اقترب من المشير طنطاوى كان يكتشف كذب الشائعات التى قيلت عنه بأنه شخص عنيف فى تعامله، فهو كان حازمًا فى قراراته وليس له (شلة).
هذا النوبى الأصيل القادم من جنوب مصر، أرض البطولات والأجداد ومصنع الرجال والعلماء والشعراء، كان بينه وبين كرسى رئاسة مصر شعرة معاوية، لأنه كان زاهدًا فى المنصب، ورغم كل ما تم إشاعته عنه ووصفه به وكتابته عنه من ألفاظ يعف القلم عن كتابتها أو ذكرها، لأنها خرجت من شخصيات كان مصيرها مزبلة التاريخ، إلا أن الأيام كشفت لنا جميعًا كيف كان المشير طنطاوى قائدًا بأخلاقه وحلمه ووطنيته ومواقفه التى أثبتت الأيام وسيثبت التاريخ أنها أنقذت مصر من حرب أهلية كان يتم الإعداد لها من الخارج قبل الداخل ومن الداخل قبل الخارج، فاتفقت هذه الشياطين على إسقاط مصر، وخاصة المؤسسة العسكرية الوطنية المصرية، لأنها آخر قنديل زيت على أرض الحقيقة.
أردت أن أسجل شهادتى وحكايتى مع المشير طنطاوى، رئيس المجلس العسكرى السابق، الذى واجه ما لم يواجهه أحد، وأعتقد أن الوثائق والأحداث مسجلة داخل أجهزة القوات المسلحة، وأن هذا التاريخ عندما يتم الإفراج عنه أو عن جزء منه سينكشف الخيط الأبيض من الخيط الأسود، حتى نعطى الرجال أقدارهم وليعلم الشعب المصرى من باع وخان هذا الوطن ومن حافظ عليه، وأنا أعلم تمامًا أن المشير طنطاوى من النماذج الوطنية التى حافظت على تراب مصر.
ولذلك أدعو الشئون المعنوية للقوات المسلحة للنظر فى الإفراج عن جزء من الوثائق الخطيرة الخاصة بهذه الفترة، والتى تبرئ هذا الرجل من الأكاذيب والشائعات التى روجها المغرضون، والذى رحل عن عالمنا فى صمت وكبرياء، فهو له ما له، وعليه ما عليه، ولكن لا يختلف أى وطنى على أرض هذا الوطن العظيم حول أن المشير محمد حسين طنطاوى كان من الرجال المحترمين الذين وضعوا الدولة المصرية نصب أعينهم وحافظوا عليها من السقوط، سواء باحتواء الإخوان أو الأمريكان، فكان هذا الاحتواء لهؤلاء الشياطين هو بداية نهايتهم عندما خرج الشعب عليهم بثورة حقيقية فى كل ميادين مصر.. وصدقت توقعات المشير طنطاوى، وعبر بالبلاد إلى بر الأمان.
رحم الله فقيد شعب مصر والشعب العربى فى كل مكان
المشير محمد حسين طنطاوى
ونسألكم الفاتحة.