أسامة شرشر يكتب: لماذا محمود العربى؟!
لماذا محمود العربى؟ ولماذا هذا الإجماع الشعبى على حبه؟
هذا هو التساؤل الصعب، فالرجل استطاع فى صمت وبلا إعلام أو إعلان أن يصنع إمبراطورية اقتصادية حقيقية على أرض الواقع لتصبح من أكبر الكيانات الصناعية فى مصر مع اليابان، وما أدراك ما اليابان!
ولكن هذا وحده ليس كافيًا؛ فمصر بها الكثير من رجال الأعمال.. ولكن محمود العربى استطاع أن ينتقل من محلية المحلية من قرية أبو رقبة بمركز أشمون بمحافظة المنوفية إلى الحصول على أعلى وسام من إمبراطور اليابان شخصيًّا، بل نعاه السفير اليابانى فى مصر بنعى طويل ومؤثر، لتعاونه المثمر مع شركة توشيبا وغيرها من الشركات اليابانية، حتى أصبح اسم العربى إحدى العلامات التجارية والصناعية الرائدة فى مصر.. ولكن هذا أيضًا لا يكفى، فمحمود العربى أصر على نقل الصناعة إلى مصر لإدخال مكون محلى الصنع بالتعاون مع العديد من الخبراء حتى وصلت الآن نسبة المكون المحلى إلى ما يزيد على 80% من مكونات المنتجات المصنعة فى مصر.
والشىء الذى أعجبنى فى هذا الرجل عندما التقيته فى التسعينيات من خلال المستشار عدلى حسين، محافظ المنوفية فى هذا التوقيت، أنه جعل مستشاره الاقتصادى أحد الرموز البنكية فى ذلك الوقت، وهو الفقيه البنكى عصام الأحمدى الذى يعتبر الصندوق الحقيقى للحاج محمود العربى والذى ظل معه طوال حياته وحتى الآن.
لقد كان محمود العربى يحمل جينات مصرية أصيلة، بداخلها مفردات الحس الاقتصادى العفوى، والذكاء الربانى الفطرى، فجمع بين هذا وذاك، كما استعان بالمتخصصين فى كل المجالات التى يعمل بها، ولكن ما ميزه حقًّا، وما اختص به فعلًا، هو أن العامل بالنسبة له يمثل رأس المال الحقيقى للشركة، فكان الحب والاحترام والاحتواء عقدًا غير مكتوب بينه وبين العاملين فى كل شركاته ومصانعه، بعيدًا عن قوانين العمل واللوائح، لأن كلمته كانت ميثاقًا للأمانة والنزاهة والشرف والتواضع وحب الآخر، وهى مفردات لا يملكها إلا رجال الأعمال الحقيقيون، الذين لم تحُم حولهم شبهات فساد أو إفساد، أو استغلال للعمال واللعب على ورقة الحاجة للعمل وأكل حقوقهم، بل وصل الأمر ببعضهم إلى تصفيتهم.
فلذلك خرج أبناء المنوفية ومحافظات مصر فى موكب مهيب لتشييع جثمان هذا الرجل الذى بكته مصر بشعبها، لأنه أحد النماذج الوطنية الاقتصادية الحقيقية الذين عشقوا تراب هذا الوطن، واحترموا الناس، وهذا هو سر نجاح هذا الرجل فى تكوين هذه الإمبراطورية الاقتصادية العملاقة على أرض الواقع، رغم أنها بدأت فى زمن (انفتاح السح الدح امبو).
أعتقد أن نموذج محمود العربى لا بد أن يُدرّس لأشباه رجال الأعمال الذين احتكروا الوطن واحتقروا العامل المصرى وما أكثرهم! والذين أسقطهم الشعب المصرى فى ميادين التحرير.. لماذا؟ لأنهم ليسوا منا ولسنا منهم؛ فهم استباحوا الغش والتدليس ونهب الأموال ومستحقات العاملين وكوّنوا ثروات طائلة فى الداخل والخارج –بغير حق- ولكنهم إذا أفلتوا من القانون الوضعى فلن يفلتوا من قانون السماء.. لقد فجر موت هذا الرجل العظيم أشياء كثيرة فى نفوس المصريين؛ لأنهم لم يجدوا نموذجًا أو نماذج مثل محمود العربى تحنو عليهم وتحتويهم.. وجاءت جائحة كورونا لتؤكد على مصداقية هذا الرجل الذى أبى أن يمس عاملًا واحدًا من إمبراطوريته فى دخله ورزقه وأكل عيشه.
وكان سؤالى عندما التقتيه فى حضور عصام الأحمدى وآخرين: لماذا رفضت العودة للبرلمان لتكون مثل رجال أعمال آخرين يستغلون هذا الموقع فى حماية ثرواتهم؟ وكانت إجابته: أنا رجل عصامى واقتصادى.. أحمى ثروتى بالعمال والإنتاج.. والبعد عن القروض المشبوهة.. ولست مختصًا فى السياسة.. والشرفاء تحميهم دعوات السماء.. وبعد المرة الوحيدة التى دخلت فيها المجلس أقسمت ألا أخوض التجربة مرة أخرى!
وسألته: هل تم ترشيحك لتكون وزيرًا؟.. أجاب: أكثر من مرة، وكنت أرفض هذا شكلًا وموضوعًا.. وسألته: لماذا لست ضيفًا دائمًا على الإعلام سواء «صحافة أو تليفزيون»؟، فأجاب بأن منتجات العربى والثقة التى تحظى بها لدى المستهلكين أفضل من أى دعاية.
كانت لقاءاتنا على فترات متباعدة، ولكنه كان مستمرًّا فى استمداد قوته من دعاء الآخرين.. وكان يكره المنافقين والكذابين ولا يحترمهم مهما كانوا.. ولذلك كان الرئيس عبد الفتاح السيسى دائم السؤال عن صحته على الهواء من ابنه إبراهيم، رئيس اتحاد الغرف التجارية.
سيظل محمود العربى أيقونة الاقتصاديين الوطنيين.. ونتمنى أن نرى أكثر من «العربى» فى كل المجالات الصناعية والإنتاجية، حتى تعود مصر إلى وضعها الحقيقى.
رحم الله محمود العربى..
ونسألكم الفاتحة.