أسامة شرشر يكتب: مكرم محمد أحمد.. الأستاذ
جاءت وفاة الأستاذ مكرم محمد أحمد لتمثل نهاية جيل الأساتذة الذين عشقوا صاحبة الجلالة وأفنوا أعمارهم فيها حتى عشقتهم وعشقهم جمهورها.
ومكرم محمد أحمد كان شخصًا فريدًا، آمن بحرية الصحافة ورفض بضراوة حبس الصحفيين فى كل العهود والأنظمة السابقة، وهو المبدأ الذى تبناه حتى مع أصحاب الأفكار المخالفة تمامًا لتوجهاته، لأنه رفع شعار أن الأفكار تواجه بالأفكار والرأى بالرأى والحجة بالحجة.
وكاد الأستاذ مكرم يدفع حياته ثمنًا لأفكاره ومواقفه عدة مرات، لأنه كان من الصحفيين القلائل الذين تصدوا لأفكار الجماعات الإرهابية من تنظيم «التكفير والهجرة» مرورًا بالجهاد وصولًا لجماعة الإخوان الإرهابية، فى وقت صمت فيه الجميع، بل فى وقت هادن فيه الكثيرون.
ومع هذا كان الأستاذ مكرم أحد الأسباب الرئيسية فى المراجعات التى تمت فى السجون المصرية، فهو من أطلق شرارة الحوار لفك طلاسم هذه المجموعات المغيبة تحت مبدأ السمع والطاعة الذى يلغى العقل والمنطق.. فاستطاع أن يدق ناقوس الخطر ليواجه أخطر المجموعات فى الجماعات الإسلامية فى ذلك الوقت.
ولأنه مكرم محمد أحمد كان يتعامل دائمًا على أنه المحرر الصحفى وليس مدير تحرير الأهرام أو رئيس مجلس إدارة دار الهلال أو نقيب الصحفيين مرات ومرات أو كونه رئيسًا للمجلس الأعلى للإعلام، فهو يمتاز عن بعض زملائه من رؤساء التحرير بأنه لم يتربح من مهنة الصحافة بل خرج منها مستورًا، فحتى السيارة المرسيدس التى تم إهداؤها لشخصه، تركها فى دار الهلال قبل أن يغادر منصبه، وهذا يعطى دلالة خطيرة على أن الإنسان والصحفى القابض على مبدئه وفكره ورؤيته هو الأبقى.
فلم نسمع عن مكرم محمد أحمد من قريب أو بعيد أنه تم الزج باسمه ولو مرة واحدة فى قضايا الكسب غير المشروع أو (من أين لك هذا؟!) مثل بعض رؤساء التحرير الذين أُثروا ثراءً فاحشًا لأنهم كانوا أدوات للأنظمة السابقة، لكن مكرم محمد أحمد ابن صاحبة الجلالة وابن شعب مصر وابن مدينة منوف العلا، كان فوق الشبهات لأنه ارتمى فى خندق الوطن ودافع عن حقوق المواطن والوطن فى آن واحد، وكان لا يخشى فى الحق لومة لائم، ودخل فى معارك كثيرة خرج منها الفائز الحقيقى بصدقه ومصداقيته ومواجهته براكين الفساد والتزاوج بين سرطان السلطة والثروة فى ذلك الوقت ولم يهادن أحدًا أو ينحن لأحد، بل قاوم الجميع بقلمه وفكره وضميره وانحيازه للجميع.. فكان أيقونة للصحافة المصرية والعربية يخشاه المنافقون والكذابون والمضللون والذين يأكلون على موائد جميع الأنظمة.
كان مكرم محمد أحمد نموذجًا مختلفًا، عشق الكلمة فعشقته وظل حتى آخر يوم فى عمره يعلن رأيه أنه ضد حبس الصحفيين أيًّا كانت اتجاهاتهم وتوجهاتهم، وكان منحازًا دائمًا وأبدًا لشباب الصحفيين من خلال تهيئة المناخ الصحفى والسعى لتدريبهم على أحدث وسائل التقنية والتكنولوجيا.. هكذا كان مكرم الأستاذ والمعلم ومربى الأجيال الذى عايشناه وتعايشنا معه وتعلمنا منه الكثير والكثير ونحن معه فى تغطيات القمم العربية.
ولهذه التغطيات حكايات كثيرة لا أنساها، أذكر منها القمة العربية فى سوريا 2008، وأن الأستاذ مكرم محمد أحمد كان يتعامل دائمًا على أنه المحرر الصحفى الذى يخرج من جعبته قلمه وقرطاسه ويسطر كلماته مثل أى صحفى مبتدئ ويسجل كل ما يقال فى المؤتمرات الصحفية، فلم يتعال كرئيس تحرير صاحب خبرة طويلة وله تلاميذ فى كل المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الأهرام التى عشقها وعشقته، حتى كان سرادق مأتمه من هذه المؤسسة العريقة، وهذه دلالة مهمة على أنه حتى فى مماته حى فى قلب الحدث وفى قلب الأهرام.
وأهم ما ميز الأستاذ مكرم محمد أحمد أنه لم ينس أو يتناس يومًا فضل أحد من أساتذته، خصوصًا محمد مصطفى البرادعى، نائب رئيس تحرير الأهرام الأسبق، ابن مدينة منوف الذى وضعه على أول الطريق فى جريدة الأهرام كمحرر.
عاش مكرم راضيًا وقانعًا ولم يتكسب، ولم تأخده اتجاهات شاذة فى تيارها، بل ظل يمسك القلم والنار فى يديه، ويرفع شعار أنه منحاز للفقراء والبسطاء من هذا الشعب العظيم.
كان مكرم صوتًا قويًّا يزلزل بمقالاته وتحليلاته وآرائه وأفكاره الغرف المغلقة للتنظيم الدولى للإخوان؛ حتى منعوه بعد ثورة 2011 من الخروج وهو نقيب للصحفيين والمشاركة فى أحد اللقاءات، ولكنه واجههم وهم يملكون السلطة.. ولا ننسى أو نتناسى ذلك لأنه فى ذاكرة الصحفيين والشعب المصرى، ومحمد مرسى الرئيس الإخوانى ذكره بالاسم لأنه كان يمثل لهم كابوسًا وصوتًا لا يمكن إسكاته فى قول الحقيقة التى انحاز لها دومًا كانحيازه الثابت للشعب والوطن.
هكذا كان مكرم محمد أحمد الذى توفى خلال أيام مباركة من شهر رمضان المبارك، وأظن أن هذه دلالة على أن الله يرضى عن عباده الصادقين فى شهر رمضان الذى تُفتح فيه أبواب الجنة وتغلق به أبواب النار.
فأى تكريم أعظم من تكريم الله وليس تكريم البشر، فتكريم البشر إلى زوال، أما تكريم السماء فهو الباقى!
رحم الله مكرم محمد أحمد
وأسكنه فسيح جناته وتجاوز عن سيئاته.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.