النهار
الأحد 29 ديسمبر 2024 09:10 صـ 28 جمادى آخر 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

رئيس التحرير

أسامة شرشر يكتب: وقفة مع عمرو موسى

الكاتب الصحفي أسامة شرشر- رئيس تحرير جريدة النهار
الكاتب الصحفي أسامة شرشر- رئيس تحرير جريدة النهار

لا شك أن عمرو موسى سيظل لغزًا سياسيًّا يصعب فك شفراته الممتدة عبر سنوات طويلة كأخطر وزير خارجية فى التسعينيات أحدث نوعًا من الحضور الشخصى فى الشارع العربى.

واستعرض فى كتابه «سنوات الدول العربية» الذى حكى فيه عن أخطر الملفات والقضايا التى عانت منها جامعة الدول العربية بعد سنوات من الجمود والركود وعدم الفاعلية- النقلة النوعية التى أحدثها فى الأداء والديناميكية عندما تولى الأمانة العامة لجامعة الدولة العربية.

فقد اقتحم عمرو موسى أخطر الملفات، وخاصة قضية العراق، وحكى فى كتابه عن لقائه المثير مع صدام حسين، وأنه انفعل قائلًا لصدام «أنت ستكون السبب فى الغزو الأمريكى للعراق وستكون نكسة أخرى مثل نكسة 67» بسبب منع المفتشين الدوليين بهيئة الطاقة النووية من التفتيش على المناطق التى تدور حولها ادعاءات بوجود أسلحة دمار شامل بها وأن الوقت ليس فى صالحه.

ويحكى عمرو موسى فى كتابه أنه أخذ تفويضًا من صدام حسين بعودة المفتشين بعد لقائه بكوفى عنان.. ولكن يبقى السؤال بعد هذا الموقف المكوكى الثلاثى بين عمرو موسى وكوفى عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، وناجى صبرى، وزير خارجية العراق: لماذا تم ضرب العراق رغم كل المحاولات الدبلوماسية؟ وكانت هذه الضربة بداية تفكك العالم العربى نتيجة الموقف العربى الذى أعطى الضوء الأخضر للرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش، الابن، بالخلاص من صدام وتقسيم العراق، وهو ما فتح الباب للدور الإيرانى فى العراق تحت المرجعية الشيعية، وكان هذا بسبب حل الجيش والشرطة العراقيين فأصبحت بغداد ساحة للتواجد الشيعى الذى تسلل إلى كل مفاصل الدولة العراقية التى كانت قبلها عربية خالصة وأصبحت (سداحًا مداحًا).

النقطة الثانية والتى كنت شاهدًا عليها، عندما أعلن عمرو موسى فى 19 يناير 2011 فى القمة الاقتصادية العربية بشرم الشيخ أن ثورة تونس ليست بعيدة عنا؛ مما أدى إلى تجهم ورفض الرئيس الأسبق مبارك هذه الرؤية، معلنًا أن مصر ليست تونس.. وأحدثت كلمات عمرو موسى دويًّا خطيرًا فى القاعة عندما قال إن المواطن العربى يعانى من التعاسة والرفض والغضب، وليس مرتاحًا لحكامه، وإن ذلك سمح بالتدخلات الخارجية وأدى إلى ما يسمى بالربيع العربى أو الشرق الأوسط الكبير، حسب إعلان كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية سابقًا.

لا شك أن عمرو موسى كان يفكر خارج الصندوق وكان يطرح أطروحات تثير غضبًا ورفضًا من بعض الحكام العرب، خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقات العربية التركية، فهو كان دائمًا يطالب بأن يكون هناك حوار مع تركيا قائلًا: إذا كنا أقمنا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فلماذا لا يكون هناك حوار عربى تركى، رغم أن تركيا إحدى الدول الفاعلة فى الشرق الأوسط؟

إن هذا الكتاب قد يعتبره البعض سيرة ذاتية لعمرو موسى، ولكنى أعتقد أنه توثيق لمرحلة من أخطر المراحل التى مرت بها المنطقة العربية فى العصر الحديث، إلا أن البعض ينتقد موسى فى كتابه بأن (الأنا) عنده عالية جدًّا، وأنه يذكر مواقف وحكايات فى غياب شاهديها، والبعض الآخر ذهب إلى أبعد من ذلك بأن موسى يدعى أنه بطل مغوار بينما هو فى الحقيقة ينظر فى قضايا لا قِبل له بها، وأنه هو السبب فى إسقاط ليبيا عندما سمح لقوات التحالف بضرب الأراضى الليبية وتجميد موقف ليبيا فى جامعة الدول العربية، ولكنى أظن أن هذه الآراء بها تحامل شديد على الرجل، لأنها تصوره وكأنه صاحب الضربة الأولى على الأراضى الليبية، فها هو قد ترك قيادة المشهد الدبلوماسى العربى، ومع ذلك فإننا نشاهد يوميًّا ما يجرى فى الأراضى الليبية بكل ما يحمله ذلك من تهديد مباشر للأمن القومى المصرى.

ورغم كل ما قيل أو يقال عن عمرو موسى، فإنه سيظل علامة مضيئة فى كتاب الدبلوماسية المصرية، وأخطر أمين عام لجامعة الدول العربية منذ نشأتها وحتى الآن، لأنه أخذ جسدًا داخل العناية المركزة، واستطاع فى فترة وجيزة أن يعيد له حيويته، حتى أصبحت الجامعة العربية شريكًا ولاعبًا أساسيًّا فى كل الملفات والقضايا الدولية والإسلامية وحتى الإفريقية، نتيجة القيادة الرشيدة وخلق كوادر دبلوماسية أحدثت تنوعًا فى العمل الدبلوماسى العربى، وأصبحت هذه الكوادر شريكة فى الخلخلة التى أحدثها عمرو موسى فى كيان الجامعة العربية، مما أحدث صحوة سياسية وثقافة ودبلوماسية، حتى إن الجامعة أصبحت تشارك لأول مرة منذ إنشائها فى المعارض الثقافية الدولية التى كانت تتجاهل الجامعة العربية من قبل، مثل معرض فرانكفورت الدولى للكتاب، وهو أحد أهم الملتقيات الثقافية فى العالم؛ وهو ما أثار اندهاش الرئيس السودانى السابق عمر البشير من كون الجامعة تشارك فى ملتقيات ثقافية.

ولا يختلف أحد ولا ينكر أن عمرو موسى كان حائطًا مانعًا ضد الأطماع الإسرائيلية وكان وزير خارجية بمعنى الكلمة، فى حضوره وردوده القوية، وكان داعمًا صريحًا للقضية الفلسطينية، ولقد ذهبت معه فى أول زيارة إلى غزة فى بداية الخلافات بين فتح وحماس، وكانت أول زيارة من أمين جامعة الدول العربية إلى غزة وبذل فيها جهودًا مضنية لإحداث توافق يبن قادة فتح وحماس ضد عدوهم الإسرائيلى.
ولا ننسى أن مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية، فى هذا التوقيت قالت للرئيس مبارك إن عمرو موسى عائق أمام عملية السلام وحاد فى التعامل مع الكيان الإسرائيلى فى تلميح منها لمبارك بإقالته.

هذه حقائق وأحداث ووقائع استطاع عمرو موسى أن يصوغها فى كتابه «سنوات الجامعة العربية»، وهى ليست ذكريات بالمعنى المعروف ولكنها أحداث وروايات وحقائق سواء اختلفت أو اتفقت معه فيها.

ففيروس عمرو موسى السياسى كوزير للخارجية وأمين عام لجامعة الدول العربية كان أكثر تأثيرًا من أى فيروس سياسى آخر فى أخطر مرحلة مرت بها الجامعة العربية.

مع تمنياتى الشخصية له بالتعافى من فيروس كورونا.