أسامة شرشر يكتب: انفجار إسرائيلى فى ليبيا
أخطر ما يهدد الشعوب والأنظمة فى العالم هو كشف الحقيقة، والخوف من النهايات وليس البدايات، فما حدث فى ليبيا يعتبر بكل المعايير والمقاييس «تشرنوبل سياسى» متعدد الاتجاهات انفجر وأشعل ليبيا والمنطقة العربية بأسرها، وذلك بعد الكشف عن تفاهمات ولقاءات تمت بين نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية الليبية، وإيلى كوهين، وزير الخارجية الإسرائيلى.
إعداد هذه الطبخة السياسية لم يحدث اليوم ولكنه منذ عام 2017 وهناك لقاءات سرية تتم هنا وهناك والزيارة الأخيرة التى قام بها مدير الاستخبارات الأمريكية فى يناير الماضى إلى ليبيا كان هدفها وضع اللمسات الأخيرة لمحاولة فرض التطبيع بين ليبيا وإسرائيل تحت شماعة المقابر اليهودية فى ليبيا وترميم المعابد مقابل أن تحظى ليبيا بغطاء أمريكى – إسرائيلى لإعادة تقسيم الثروة والسلطة بالطريقة التى تراها المنقوش وبعض كبار المسئولين التنفيذيين ذوي الوزن السياسي الثقيل، ولكن التفكير الجمعى للشعب الليبى العظيم الذى غضب من هذه المحادثات أشد الغضب هو أفضل أنواع المقاومة التى سيكتبها التاريخ والأجيال القادمة بأحرف من نور.
المصيبة الكبرى أن هؤلاء المتورطين كانوا يدّعون للأسف الشديد القومية العربية والعروبة ومبدأ عدم التفاوض مع إسرائيل، ولكن يبدو أنه فى الغرف المغلقة فى العواصم الأوروبية كان يتم التخطيط لعمل علاقات ليبية- إسرائيلية على طريقة الهرولة التى تمت فى عهد ترامب من بعض الدول العربية (اتفاقات أبراهام) والتى كان نتيجتها مزيدًا من حرق الأراضى الفلسطينية والمستوطنات وتغيير ملامح الأماكن فى الضفة الغربية والقدس، وحتى المسجد الأقصى يتم تغيير هويته ليتحول من مسجد للمسلمين وقبلة لهم ومكان مقدس شهد معجزة الإسراء والمعراج إلى هيكل سليمان على الطريقة اليهودية والدولة اليهودية المتطرفة التى تزعم أن هذه المنطقة أرض يهودية منذ بدء الخليقة!.
وكان نتيجة كشف هذه المحادثات بين المنقوش وكوهين أن انطلقت المظاهرات الغاضبة فى ليبيا فى الشوارع والميادين؛ حتى وصل الأمر إلى حرق منزل وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش التى كانت ترتدى عباءة العروبة والقومية وترفع شعارات رنانة، فاحترق منزلها بعباءتها، ثم احترقت مقرات لرئيس حكومتها الليبى عبد الحميد الدبيبة الذى ظهرت معلومات تؤكد أنه نفسه التقى برئيس الوزراء الإيطالي وإيلي كوهين وزير الخارجية الإسرائيلي في روما للحصول على الدعم الأمريكي والإسرائيلي للاستمرار في رئاسة الحكومة الليبية في الانتخابات القادمة، ورغم ذلك سارع ليضحى بها، وجعلها كبش فداء بإقالتها فورًا؛ بل وسارع لزيارة السفارة الفلسطينية في ليبيا ليعلن رفضه لما قامت به نجلاء المنقوش حتى يمنع غضب الثوار من الشعب الليبى الحر الذى يرفض الاستسلام أو العبودية، فهو الشعب الذى رفض الدخول فى حظيرة الطاعة الأمريكية؛ فما بالك عندما يعلم بالتبعية لإسرائيل والصهيونية؟! فكان ذلك هو الشعلة التى أحرقت الأخضر واليابس فى المدن الليبية المقاومة والصامدة التى تفخر بتاريخها العريق وكونها امتدادًا للمناضل الأكبر الشهيد عمر المختار رمز المقاومة الليبية والشعب الليبى.
وعلي جانب آخر قامت بعض منظمات المجتمع المدني الليبية وبعض الهيئات والأحزاب السياسية بعقد مؤتمرًا صحفيًا ليعلنوا رفضهم القاطع لما فعلته المنقوش ورفضهم التطبيع مع الكيان الصهيوني بل ودعمهم للمقاومة الفلسطنية فى الأراضى المحتلة.
وهو نفس ما فعله عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي الذي أعلن رفضه القاطع للتعامل مع الكيان الصهيوني وأن قضية القدس هي قضية كل المسلمين وكل الشعب الليبي ؛ مؤكدًا أن القانون 68 لعام ١٩٥٧يجرم التعامل مع الكيان الصهيوني لا في السر ولا في العلن.
بل إن عقيلة صالح في اجتماع طارئ لمجلس النواب، وجه رسالة للعالم بعدم الاعتراف بحكومة الدبيبة لأنها «مقالة»، وذلك لطمأنة الرأي العام الليبي بأنه لا نية للتطبيع مع إسرائيل.
وكأن تقاسم السلطة والثروة يدفع ثمنه الشعوب والأجيال القادمة؛ لأن ليبيا تعوم على كميات من الغاز والبترول من أجود الأنواع فى العالم.
فأصبحت ليبيا محاصرة بين مطرقة الغرب وخاصة فرنسا وأمريكا وانتماءاتها العروبية والقومية التى لم تلوث سياسيًّا على مدار العقود الماضية، لأنها لم يكن لها علاقة من قريب أو بعيد بإسرائيل التى تريد أن تحقق حلمها الذى كبر وأصبح من المحيط إلى الخليج بدلًا من النيل للفرات بعدما وصل بهم الأمر أن تكون ليبيا هى محطتهم الأخيرة لحوض شرق المتوسط الغنى بكنوز وثروات لا يعرف أحد أبعادها وأعماقها.
وكأن القدر يريد أن يمنع كارثة أو مصيبة عندما أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية كل ما كان يدور داخل الغرف المغلقة، من محاولة إعادة ليبيا والشعب الليبى إلى الطاعة الأمريكية والإسرائيلية.
ولكن المهم فى هذه القضية أن مصر لم تكن غائبة بل كانت تراقب الموقف بحذر، لأن ليبيا بُعد وامتداد قومى للقاهرة، وعلاقات مصر وليبيا علاقات ثابتة على مر العصور، والشعبان المصرى والليبى تجمعهما أنساب وأرحام على مر التاريخ، فهى ليست علاقة عابرة، بل هى كما قال الرئيس السيسى فى قاعدة محمد نجيب العسكرية (ليبيا خط أحمر) وذلك بعدما كثر اللاعبون فى ليبيا ودخول تركيا على خط الأزمة، ولكن أعتقد أنه بعد وفاة بريجوجين، زعيم فاجنر، فإن المستور قد انكشف فى ليبيا، وسينكشف قريبًا فى السودان وعلاقات الدعم السريع بتهريب الذهب، وكذلك سينكشف المستور فى النيجر ومالى وإفريقيا الوسطى وغيرها.
وأعتقد أنه ستكون هناك مفاجآت من العيار الثقيل؛ لأن الذهب واليورانيوم والماس (صناعة الثروة) هى الشغل الشاغل للأمريكان والإسرائيليين فى العالم، وهم لا يريدون للبريكس أن يقترب من هيمنة الدولار والنفوذ الأمريكى الإسرائيلى على العالم، وهذه الثروات كما يعتقدون هى ملكية خاصة للأمريكان البيض وليس السمر لأنهم جنس من عالم آخر أقل منهم!.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى الأحداث منذ شهور قليلة فسنجد أن وزير الخارجية الوطنى السفير سامح شكرى، رفض داخل بيت العرب الجامعة العربية أن يصافح نجلاء المنقوش فى اجتماع وزراء الخارجية العرب بقاهرة المعز، وكانت هذه رسالة لم يتم فك شفراتها وقتها أن مصر تعلم ما يدور من مؤامرات واتفاقيات سرية مع الكيان الصهيونى، وهى رسالة من الوزير النشط سامح شكرى وكتيبة وزارة الخارجية معقل الدبلوماسية العريقة والأجهزة الاستخباراتية المصرية الوطنية المطلعة على ما يدور فى صمت وتعمل دون ضجيج أو إعلان، وهذا دورها على مر التاريخ، فبطولات المخابرات المصرية لا تحتاج إلى دليل أو إفصاح، ولكن نجلاء المنقوش لم تستوعب الرسالة التى وجهها لها السفير سامح شكرى وكتيبة سفراء الوزراة فى كل المجالات، فكانت ضربة قاصمة للمنقوش ومن يحركها أن مصر تعرف ما يدور داخل الغرف المغلقة فى العواصم الأوروبية والعربية.
وهذا هو قدر مصر التى ليس لها أطماع فى دول الجوار المرتبطة بالأمن القومى سواء ليبيا أو السودان، رغم كثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين، أنها عندما يتهدد الأمن القومى المصرى أو العربى تقول (كش ملك) وتخرج عن صمتها لتعلن للعالم أجمع أن مصر لن تسمح بذلك، وهى تملك من القوة ما يمكنها من تنفيذ إرادتها، فمصر بها أقوى جيش فى منطقة الشرق الأوسط، وأقوى قوة بحرية، وهذا ليس كلامنا ولكنه تقييم جلوبال فاير باور، أن مصر لديها قوة عسكرية تستطيع أن تدافع بها عن حدودها وأرضها وشعبها وعرضها.
فلذلك ما خفى كان أعظم فى ملف العلاقات الليبية الإسرائيلية، وسينكشف المزيد فى الأيام القادمة، خاصة بعدما قامت أمريكا بتوبيخ إسرائيل على كشف المستور عن هذه العلاقة فى هذا التوقيت؛ الأمر الذى يفسد مخطط الشرق الأوسط الكبير، خصوصًا أن عملاءها ينشطون خلال الفترة الأخيرة لا سيما قبل الانتخابات الرئاسية المصرية، ويتعاونون مع الجماعات المتطرفة واليمين والشمال، والهدف فى النهاية هو حصار الدولة المصرية، وكانت إسرائيل تلعب فى هذا الملف بكل قوة حتى يكون الأمر مفاجأة للدولة المصرية بإعلان تأسيس علاقات ليبية إسرائيلية، الأمر الذى كان سيمثل انفجارًا يحدث دويًّا فى مصر والعالم العربى، بل فى أمريكا وفرنسا، وخاصة فرنسا التى ستكشف محاكمها خلال الأيام القادمة عن تمويلات ليبية لحملات ساركوزى، الرئيس الأسبق، وبعض كبار رجاله، وهذا ما كشف عنه القضاء الفرنسى، مما سيتسبب فى سجنه، وهو ما سيكون مسمارًا أخيرًا فى نعش فرنسا التى تآكلت سيطرتها فى إفريقيا شمالًا وجنوبًا ووسطًا وفى أوروبا وحتى فى آسيا وفى المحيط الهادى من خلال الحصار الأمريكى عليها.
كل هذا يجرى ولكن الجريمة الكبرى هى ما ظهر وما سوف يظهر من وثائق ومعلومات عن طبيعة العلاقات واللقاءات والتفاوضات والتفاهمات التى تتم بين إسرائيل ووزيرة الخارجية نجلاء المنقوش التى تنقش فى نهاية عمرها الوظيفى سجنها بيديها هى ومن وراءها لتنكشف أكبر جريمة فى حق الشعب الليبى العظيم.
ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء.