النهار
الإثنين 23 ديسمبر 2024 02:07 صـ 22 جمادى آخر 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

رئيس التحرير

أسامة شرشر يكتب: إلى عرفات الله

النائب والإعلامي أسامة شرشر- رئيس تحرير جريدة النهار
النائب والإعلامي أسامة شرشر- رئيس تحرير جريدة النهار

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم «أفضل أيام الدنيا أيام العشر»، يعنى العشر الأوائل من ذى الحجة.. فمن أخطر اللحظات فى حياة الإنسان عندما يقف أمام الله فى عرفات بمكة المكرمة، وترتفع أيادى الحجاج من كل مكان ولون ولغة وعرق، وهم يدعون أن يغفر الله ما تقدم لهم من ذنوب وما تأخر.

فهى لحظة الصفاء مع الله، ولحظة التجرد والتعبد الكامل من خلال ملايين البشر الذين يطوفون حول الكعبة، بينما عيون وأفئدة أكثر من مليار مسلم تتجه إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة التى يرقد فيها الحبيب المصطفى وأبوبكر وعمر وعثمان وكبار صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وصدق الإمام الشافعى عندما قال:

(خليلىّ إن عاينتما أرض يثرب

فعند رسول الله قد نزل الركب

فقولا له يا أحمد ومحمد

محب من الزوار عوّقه الذنب

عسى جاهك المقبول يكشف غمه

فجاهك يا مختار يرضى به الرب)

ورغم ارتفاع أسعار الحج هذا العام بشكل كبير وغير مبرر، فإن عشق الحجاج المصريين للذهاب لأداء فريضة الحج ولو حجوا ألف مرة قبل ذلك لا ينقطع، فكل مرة هناك روح جديدة، وإحساس آخر ينتاب الحجاج، وهم يغادرون أرض مصر المحروسة بالأغانى والزغاريد مرددين (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لبيك لا شريك لك).

لو تمعنّا فى هذه الكلمات التى تخرج من القلوب والأعماق سنجد أن أكثر الناس خشوعًا وفرحًا- وهذا ليس تحيزًا- هم الحجاج المصريون الذين يمثلون الوسطية فى كل شىء، فى الدين والتسامح ومكارم الأخلاق؛ لأن «الدين هو المعاملة»، وهم على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم وأموالهم لأداء فريضة الحج رغم هذا الجشع غير المبرر والاحتكار والأرقام المُبَالغ فيها؛ حتى وصل الحج الذى يسمى بالفاخر إلى أكثر من مليون جنيه، والله هذه جريمة كبرى فى حق فريضة الحج وفى حق الحجاج الذين يدفعون هذه المبالغ تحت ما يسمى بالحج الفاخر والحج السياحى، فلحظات الحج تساوى بين الغنى والفقير فى رمى الجمرات وفى أداء مناسك الحج والوقوف على عرفات الله.

هذه لحظات اختزلها وعايشها بعمق وبإحساس وقرب من الله أمير الشعراء أحمد شوقى عندما شدت سيدة الغناء العربى التى تتربع على عرش قلوب المسلمين من المحيط إلى الخليج وقالت (ويا رب.. هَل تُغنى عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ وَفى العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ؟) وهى تلتمس الطريق إلى النجاة من الخوف عند الوقوف على عرفات الله وأثناء أداء مناسك الحج، فهذه اللحظات الإيمانية والدينية تجعلنا جميعًا نهفو إلى أداء فريضة الحج بعد أن أصاب العالم والمسلمين جائحة كورونا التى كانت سببًا فى عدم الذهاب لأداء الحج.

وها نحن نطالع المتغيرات العالمية والصراعات والحرب الروسية الأوكرانية وما يجرى فى «المسجد الأقصى»- يا عرب- من استباحة بأقدام اليهود والصهاينة الذين دنسوا أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. فالأقصى يعانى كل لحظة وأرواح المصلين تُنتهك أثناء صلواتهم والشباب والأطفال والنساء والشيوخ يُقتلون وهم يدافعون عن المسجد الأقصى أمام صمت المسلمين فى كل العالم، فأكثر من مليار مسلم يشاهدون ما يجرى فى المسجد الأقصى ولا يتحركون ولا يدافعون إلا من خلال بيانات الشجب والإدانة، فمتى نتحرك ونثور للدفاع عن المسجد الأقصى؟!.

فالبيت الحرام فى مكة المكرمة يجمع الملايين من المسلمين من كل فج عميق، فلو تحركوا لكانوا سدًّا منيعًا أمام المتطرفين وأمام أطماع الصهاينة وعلى رأسهم نتنياهو والمستوطنون الجدد؛ لأن الصمت الدولى هو العلامة الفارقة، والفيتو الأمريكى يمنع أى إدانة للكيان الصهيونى، ولكن لن يقدروا على أن يواجهوا ملايين المسلمين عندما يذهبون لتحرير المسجد الأقصى من هؤلاء الفجرة من الصهاينة.

دعونا والعالم يتحرك ويتغير بين الأحادية والثنائية والثلاثية ومتعددة الأقطاب، والعيون والقلوب كلها تتجه نحو الكعبة المشرفة بمكة المكرمة التى لا تتغير على مر الأيام والأحداث، والتى وُلد فيها الرسول، عليه الصلاة والسلام، وكانت ضوءًا لهداية البشرية من خلال كتاب نزل به جبريل، عليه السلام، وهو القرآن الكريم باللغة العربية التى هى سيدة لغات العالم مهما حاولوا طمسها ومهما حاول المدّعون الجدد الكلام بلغات وأسماء ومفردات تسقط أمام لغتنا العربية التى هى فى شكلها ومضمونها تمثل أم اللغات، وتحت مسمى العولمة والتمدين وإطلاق أسماء اللغات الأجنبية على الأشخاص والشركات والمحلات، فمحاولة التقليد والتشبه هى أم الكوارث للغة القرآن، لأن التشبه بالرجال فلاحٌ وباللغات ضياعٌ، فكما يعتزون هم بلغتهم فيجب علينا أيضًا أن نعتز بلغتنا التى هى لغة السماء، وليست من وضع البشر، وهى لغة القرآن الكريم الذى حير ويُحير وسيحير العالم كله مهما وصلوا من تكنولوجيا أو ذكاء صناعى أو غباء! لمحاولة فك شفرات مخ الإنسان الذى لن يتمكنوا، مهما حاولوا إلى يوم الساعة، من أن يعرفوا أسرار هذا المكون الربانى والإلهى، لأن بانتهائه انتهاء للبشرية والحياة.. كل هذا يحدث بروحانيات وطقوس وشعائر ودعاء وبكاء فى المسجد الحرام ومسجد رسول الله فى المدينة المنورة، وهو ما يذكرنا ولا ينسينا على الإطلاق «المسجد الأقصى».

ونحن على أبواب منى وعرفات ورمى الجمرات ضد إبليس وأباليس أمريكا وإسرائيل بعد أيام وساعات قليلة لتتحول أنظار العالم كله مشرقه ومغربه نحو هذا الحدث الربانى الذى ليس له نظير فى العالم.

ما أحوجنا اليوم إلى انتهاز هذه الفرصة ونحن نعيش نسائم وعطور هذه الأيام المباركة من أوائل شهر ذى الحجة وأبواب السماء مفتوحة لاستقبال مليارات الدعوات للخلاص (وكيف الخلاص والقلب والعقل مشغولان بمفاتن الدنيا وسلطانها؟!).

ولكن سيبقى السلطان الحقيقى على الأرض هو الله مهما ادعوا أنهم سيقدرون على المسلمين والإسلام ولكن هيهات.. سيبقى الإسلام إلى يوم الساعة وسيذهب الصهاينة وكل المتآمرين إلى غياهب النسيان، فالتاريخ والأحداث والمواقف تُصنع مرة واحدة، ولا يوجد طريق إلى عرفات الله إلا حج البيت الحرام، ومن أراد منه وإليه تقربًا وعرفانًا وحسبانًا وشفاعة وهروبًا من الذنوب ومن المعصية ومن النار.

هذه انتفاضة مليارات المسلمين فى كل أنحاء العالم.

والسؤال الذى يحيرهم: لماذا يتزايد أعداد المسلمين فى الحج وأداء الصلوات؟!

هذا هو السر الإلهى.. وهذه هى خلطة ذرية سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم.

والناظر إلى الكعبة هذه الأيام لا يجد تفرقة بين أبيض أو أسود أو عربى أو أعجمى، وهذه هى حقوق الإنسان فى مكة المكرمة بالمفهوم الشامل الحقيقى وليس بمفهوم الأمريكان والأوروبيين، فالسعودية تفوقت على نفسها فى عمل طفرة هذا العام فى تقديم كل التسهيلات اللوجستية والدينية إلى حجاج البيت الحرام، وخاصة أبناء الشعب الفلسطينى العظيم مرورًا بأبناء اليمن السعيد، وختامًا بالشعب السورى البطل، وهذا أبلغ رد عملى على الذين يدعون ويصرخون ليل نهار بحقوق الإنسان والحيوان وهم أبعد ما يكونون عن احترام الإنسان الذى كرمه الله على سائر مخلوقات الأرض، لسبب بسيط أنهم يهتمون فى بعض الأحيان بالحيوان عن الإنسان، ووصل بهم التطرف للاعتراف بحقوق المثليين وشواذهم.

انتبهوا يا مسلمون فى كل مكان، فهذا غزو جديد ولكن نحن محصنون بالقرآن الكريم وبالأزهر الشريف وعلمائه الحقيقيين وعلماء المسلمين فى كل البلدان العربية والإسلامية الذين هم المرجعية لصد هذا التتار الجديد الذى يحاول تشويه مشاعر المسلمين فى كل مكان، وما يجرى فى البوسنة والهرسك من الصرب خير دليل على محاولات قتل الأقلية من المسلمين.

أفيقوا يا مسلمون؛ نحن نمتلك أسلحة ربانية أقوى من الأسلحة النووية والأدوات التكنولوجية والغباء الاصطناعى الذى يقتل الإبداع الإنسانى، فهل هناك أحد غير المسلمين ينتفض ويطوف حول المسجد الحرام والروضة الشريفة لرسول الله والمسجد الأقصى الذى بورك حوله؟!.

فمن الدعاء والبكاء فى عرفات الله إلى الخلاص من الذنوب والمعاصى.. وتحرير المسجد الأقصى.