مصر تشهد المحاولات الأولى للتأويل قبل الميلاد
كشف الأستاذ الدكتور عبد الفتاح يوسف أستاذ الأدب والدراسات النقديّة الحديثة بجامعة البحرين، في محاضرته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب وعنوانها: قراءة التراث: من هَمِّ الأدبيّةِ إلى رِهاناتِ التأويليّةِ في تجربة مصطفى ناصف النقديّة. عن أن كتبة الإسكندرية شهدت المحاولات الإنسانيّة الأولى للتأويل على يد ( فيلون السكندري) حيث شهد الدرس التأويلي تحولاً مدهشًا بانفتاح تفسير الكتاب المقدّس على الحكمة الإغريقيّة من أجل مواجهة التفسير الحرفي للكتاب المقدّس، وفي سبيل ذلك سعى ( فيلون) إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، من أجل جعل الكتاب المقدّس صالحًا لكل زمان ومكان. وعلى إثر الممارسة التأويليّة، تحرّر الكتاب المقدّس من صعوبات التفسير الحرفي، من خلال تفسيره في ضوء النظريات الأفلاطونيّة والرواقيّة، كما انفتح ( فيلون السكندري) على الحضارة المصرية في تفسيراته ما أدّى إلى إزالة الغموض وتجنّب الفهم الخاطئ للتوراة. بعد ذلك شهدت مكتبة الإسكندريّة تأويلاً أدبيًّا لملاحم هوميروس الشهيرة، وكان هذا التأويل هو بداية انفتاح الشعر على التأويل.
وناقش في محاضرته إجراءات الخطاب النقدي لدى ناصف؛ للتحرّر من قيود التبعيّة التي فرضتها المناهج السياقيّة أو المناهج النصيّة، كما وقف ناصف على عِلل النقد وظواهر الأدب من خلال توجّه عقلاني واضح فتح الأفق النقدي على فلسفة الأدب؛ وبذلك أصبح لمفهوم النقد في فكر ( ناصف) طبيعة مختلفة بعض الشيء عن السّائد والرّائج في هذا المنعطف التاريخي؛ حيث السجال بين القديم والجديد من ناحية، والعربي والغربي من ناحية أخرى.
كما قال الدكتور يوسف: إنّ ناصف قدّم قراءة ثانية لشعرنا القديم في كتابه ( قراءة ثانية لشعرنا القديم) حيث شكّك في الأفكار المشوّشة حول الشعر الجاهلي؛ ليقدّم تأويلاً جديدًا دعا فيها إلى إعادة التفكير في تقاليد القصيدة الجاهليّة وإشكاليّاتها، بدلاً من التعقيدات المدرسيّة التي تورّط فيها معظم النقّاد. وأجرى محاورات مع النثر القديم في كتابه ( محاورات مع النثر العربي) كشف فيها عن تطوّر لغة النثر العربي القديم واستيعابها للتاريخ. وبَشّرَ بميلادٍ جديدٍ لدراسة اللغة والبلاغة في كتابه ( اللغة والبلاغة والميلاد الجديد). ولم يغفل ( ناصف) النظريّة النقديّة، فبعد أن تناول قضيّة المعنى في تراثنا النقدي، قدّم لنا مشروعًا مهمًّا في النظريّة النقديّة فتح فيه الأفق النقدي على الثقافة وأسئلتها وقلقها. ، في مرحلة هيمنة المشروع النقدي الشكلاني وملحقاته، طالعنا ( ناصف) بمشروع نقدي تنظيري وتطبيقي في الأدب العربي كَسِرَ فيه معياريّة الشكلانيّة ومتجاوزًا المشروع البنيوي ومبشِّرًا بمشروع تأويلي فينومينولوجي ( ما بعد حداثي) لقراءة التراث الأدبي العربي، هاجسه الأساس الكشف عن معانٍ جديدة في الخطاب الإبداعي؛ إذ جاء مشروعة النقدي بوصفه ضربًا من استعادة القوّة الفكريّة والنقديّة في الفكر العربي الحديث، فاعتبر المناهج الشكلانيّة لا تُحاور وإنّما تُقرّر؛ ومن ثمّ تختصر النّاقد في صندوق صغير جدًا
وانتهي يوسف، إلى أن تأويليّة مصطفى ناصف تلفت انتباهنا إلى حركة التنوير النّقدي في النقد العربي الحديث، فالتنوير لم يكن استعارة ميّتة في كتابات ناصف، وإنّما كان استعارة حيّة تدبّر فيها حركة العقل النّقدي، فاحتفى بفلسفة الفينومينولوجيا، ولا سيّما طروحات هوسيرل، وهايدجير، مثلما احتفى بجدل هيجل، وتأويليّة الخطاب لدى بول ريكور، كما احتفى بريتشاردز في خطابه البلاغي وتمثّله لمفهومي: خرافة المعنى الخاص، وسوء الفهم. فقد كان واعيًا بحركة التأويل النقدي وتحوّلاتها في الفلسفة الغربيّة. كان هذا الاحتفاء مصدر النّور الذي حرّر خطابه النقدي من أسر الفكر البنيوي والشكلاني غير النّاضج في مرحلة ما بعد الحداثة؛ حيث أوفى بوعوده في دراسة النصّ الأدبي في مرحلة الحداثة، وكان ناصف واعيًا بهذا التحوّل في الفكر النّقدي حين اهتمّ في خطابة بالتأويليّة، في مرحلة الفتنة بالدراسات البنيويّة في الجامعات المصريّة والعربيّة