أسامة شرشر يكتب: رسائل السيسى وتبون من القاهرة
فى قراءة متأنية للرسائل التى أرسلها الرئيس عبدالفتاح السيسى، والرئيس الجزائرى عبدالمجيد تبون، نجد أن هذه الرسائل تؤكد أن مصر ستظل هى الحاضنة الحقيقية لأى تحرك عربى سواء على المستوى الثنائى أو الجماعى، وهذا ما كان واضحًا وجليًّا من الزيارة التى قام بها تبون إلى مصر، لأن الجزائر بشعبها وجيشها ومواقفها القومية ستظل إحدى حواضن القضية الفلسطينية، وهى تعمل فى كل المحافل الدولية على إعلان موقفها الذى لا يحيد عن دعم ثورة وانتفاضة الشعب الفلسطينى وكذلك رفضها المطلق لما يجرى فى لبنان مهما كانت الذرائع والتحديات.
إن الجزائر هى الصوت العربى العالى فى شمال إفريقيا الذى يرفض من قريب أو بعيد أى علاقات مع الكيان الصهيونى ويرفض أى محاولات للتطبيع مهما كانت الإغراءات وهى تمثل درعًا عربية حقيقية فى شمال إفريقيا من خلال رسائلها التى ترسلها للجميع سواء الجيران أو الأشقاء أو دول العالم.
فلذلك كان اللقاء الأخير رسالة قوية بأن مصر ومعها الجزائر مهمومان بما يجرى فى غزة وفى لبنان، وأن إعلان السيسى لمبادرة مصرية بعمل هدنة لـ10 أيام، رغم الرفض المتوقع من اليمين المتطرف الإسرائيلى الذى يمثله الشيطان الأكبر والأصغر والأوسط (نتنياهو وبن غفير وسموتريتش)- أحدث نوعًا من إذابة الجليد فى وقت توقفت فيه المفاوضات منذ فترة، وحتى مبادرة بايدن السابقة، كانت عناصرها ومحتواها ومضمونها نتاج ما طالبت به المخابرات المصرية العظيمة وفريق العمل الذى يعمل ليل نهار فى وضع حلول رغم ألاعيب الكيان الصهيونى، ولكن الخبرة التى اكتسبتها المخابرات العامة والخارجية المصرية جعلتنا نقدم هذا الطرح، ولذلك أعلن الشيطان الأكبر إرسال مندوب إسرائيلى على أعلى مستوى لمناقشة المقترح المصرى الأخير الذى وافق عليه وزير الدفاع جالانت والمؤسسة العسكرية رغم أن القرار فى النهاية يخضع لموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلى.
وفى نفس التوقيت تجرى فى الدوحة لقاءات أمريكية قطرية إسرائيلية من خلال وزير الخارجية القطرى النشط والكفء محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثانى الذى يلعب دورًا رائعًا فى محاولات إحياء المفاوضات مرة أخرى.. ولِمَ لا؟! وقطر كانت لاعبًا دبلوماسيًّا كبيرًا فى تقريب وجهات النظر بين أمريكا وطالبان.
فنحن نشيد بأى موقف عربى حقيقى، ولا بد أن نذكر السعودية أيضًا، التى رفضت من خلال ولى العهد الأمير محمد بن سلمان رفضًا قاطعًا عمل علاقات مع إسرائيل إلا بعد وقف الحرب فى غزة وفى لبنان، بل رفضت رفضًا قاطعًا استخدام المجال الجوى السعودى أو القواعد العسكرية لضرب إيران، وكذلك الموقف القطرى.
فهناك بوصلة من المواقف العربية تتشكل الآن لمواجهة اليمين المتطرف الإسرائيلى فى كل شىء، وأعتقد أن زيارة وزير الخارجية الإيرانى للقاهرة وبعض العواصم العربية كان لها تأثير كبير على حجم الضربة الإسرائيلية على إيران، فهكذا يتشكل الآن محور عربى إسلامى لمواجهة هذا المد اليمينى المتطرف الذى يحاول إحياء الصدام السنى الشيعى فى المنطقة، ولكن مصر تقف حجر عثرة أمام هذا المخطط، وأمام مشروع الشرق الأوسط الجديد والقديم.
كل هذا جعلنا نفكر ونحلل الكلمات التى أطلقها الرئيس عبدالمجيد تبون قائلًا إن مصر الشقيقة الكبرى تعد الأقرب جغرافيًّا لغزة وتعانى أكثر من باقى الدول العربية مما يجرى فيها، معلنًا أن قلوب الشعب الجزائرى مع الغزاويين وأنهم يتألمون للإبادة البشرية المستمرة والمجاعة التى خلّفها الكيان الإسرائيلى المحتل قائلًا إننا نحاول مع الأشقاء فى مصر إنقاذ الموقف من خلال مبادرة أخى الرئيس السيسى لعمل هدنة فى غزة تسمح بإدخال كل ما يحتاجه الشعب الفلسطينى تمهيدًا للوصول إلى الحل النهائى (حل الدولتين)، وهذا لن يكون موجودًا إلا بتيسير تحرك الفلسطينيين فى أراضيهم تحت إشراف دولة صديقة وكبيرة مثل مصر، وأعلنها من القاهرة أن موقف الجزائر لم ولن ولا يتغير تجاه إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
هذه الكلمات التى أطلقها الرئيس الجزائرى فى المؤتمر الصحفى فى القاهرة هزت قلوب الشعب العربى من المحيط إلى الخليج، لأنه موقف عروبى وقومى ليس بجديد على دولة الجزائر التى هبت عام 1973 وقام الرئيس الجزائرى الراحل هوارى بومدين بكتابة شيك مفتوح إلى القيادة السوفيتية فى هذا التوقيت لمد مصر وسوريا بالسلاح لمواجهة إسرائيل.
فهذا الرجل بمواقفه الثابتة يعكس العلاقة بين الشعب الجزائرى صاحب ثورة (المليون ونصف مليون شهيد)، والشعب المصرى الذى كانت إذاعة صوت العرب منبرًا لدعم أشقائه فى الجزائر، ضد الاستعمار الفرنسى، وكانت مصر بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر هى الحاضنة الأولى لقيادات الجزائر وشعبها الأبىّ الغيور فى دعم القضايا العربية.
ستظل الجزائر نبراسًا وصوتًا حرًّا ومستقلًّا بإرادة سياسية منفردة ليست تابعة للبيت الأبيض أو الغرب، تستمد قراراتها من إرادتها وتاريخها الوطنى.
وأعتقد أن التحرك المصرى الجزائرى سيكون لبنة حقيقية لإعادة بناء المد الشعبى العربى رغم محاولات البعض– للأسف الشديد- المسارعة للتطبيع مع الكيان الصهيونى الذى دمر وأباد الشعب الفلسطينى ويكرر نفس السيناريو مع الشعب اللبنانى فى بيروت التى تدفع أيضًا فاتورة الخلافات العربية – العربية.
فلذلك كان هذا اللقاء التاريخى والعروبى والقومى بين مصر والجزائر فى هذا التوقيت الهام والحساس- بمثابة بادرة أمل لإحياء الموقف العربى الرافض للكيان الصهيونى، وجاءت موافقة حركة حماس على المبادرة المصرية والترحيب بها للتهدئة فى غزة، رغم رفضها وقف إطلاق النار إلا بعد انسحاب إسرائيل من شمال غزة ومحور نتساريم وممر صلاح الدين (فيلادلفيا)، لتؤكد أن هناك ثقب أمل فى عودة ما يسمى بالموقف العربى الموحد، رغم بعض العثرات، ولكن ستظل إرادة الشعوب هى الباقية، والذين يتخلون عن القضية لن تغفر لهم الأجيال القادمة أو التاريخ مواقفهم تجاه شعب يُباد على الهواء ونحن صامتون.
رحم الله شهداء غزة ولبنان وقبلهم شهداء مصر والجزائر فى حرب 1973.
وأخيرًا فإن انتمائى لن يكون إلا إلى مصر ووطننا العربى الكبير.