أسامة شرشر يكتب: ارفعوا أيديكم عن يحيى السنوار
سيظل يحيى السنوار رمزًا من رموز المقاومة الفلسطينية الحقيقية، بعدما استُشهد فى خط المواجهة مع رجال المقاومة، ولم يكن مختبئًا فى الأنفاق كما ادعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، ولم يكن مرتديًا زى امرأة كما حاول الإعلام الإسرائيلى أن يصور هذا المناضل الفلسطينى الحقيقى الذى أعادنا بالذاكرة إلى شهداء قدموا حياتهم من أجل القضية الفلسطينية، أمثال ياسر عرفات وأبو إياد وإسماعيل هنية وكثيرين غيرهم.
فيحيى السنوار، هذا الرجل الفلسطينى الحر، أحدث نقلة نوعية فى تركيبة المقاومة الفلسطينية من حيث الإعداد والتخطيط والتدريب، ونقلها من الحجارة إلى طوفان الأقصى، فلأول مرة فى تاريخ الصراع الفلسطينى الإسرائيلى يحدث هجوم فلسطينى نوعى بهذه الكيفية والدقة داخل الكيان الإسرئيلى الذى أصيب بصدمة تشبه الصدمة التى تلقاها فى السادس من أكتوبر 1973.
فإذا كانت القوات المسلحة المصرية قد اجتازت الساتر الترابى وخط بارليف المنيع، فإن المقاومة الفلسطينية اجتازت الساتر النفسى والرمزى، الذى أسقط التمييز العنصري إلى الحضيض، واستطاع شباب المقاومة الفلسطينية بقيادة يحيى السنوار أن يحدثوا زلزالًا فى العالم كله، أيًّا كانت النتائج والتضحيات، فسواء قاوم الشعب الفلسطينى أو اتجه للسلام، فإن جرائم إسرائيل تستمر بمبرر أو بدون مبرر، فجاءت هذه الضربة الفلسطينية لتذهل الأصدقاء قبل الأعداء وتصيب اليمين المتطرف الإسرائيلى بقيادة نتنياهو بالجنون، وتجعلهم فى حالة رعب وخوف لأول مرة منذ حرب أكتوبر 1973.
ولكن الجريمة الكبرى هى أن المقاومة الفلسطينية وأهلنا فى غزة وفى الضفة الغربية والقدس وفى الجنوب اللبنانى يقاومون ويقاتلون ويستشهدون وحدهم، وليس هناك أى دعم لوجستى عربى على الإطلاق، ولا أعلم كيف نقبل أن يقاوم أهلنا فى فلسطين ولبنان ويتم قتلهم بدم بارد بأحدث الأسلحة الأمريكية والأوروبية ونحن صامتون أو خائفون؟!.
القضية يا سادة أن الصراع العربى الإسرائيلى تحول إلى صراع عربى- عربى لدعم إسرائيل، إلا مصر؛ فهى حجر الزاوية التى تتعامل بدبلوماسية وبحكمة خطيرة جدًّا، لأنه للأسف الشديد يحاول البعض أن يدفع مصر إلى خط المواجهة وحدها– وهى قادرة- وبدون ظهير عربى أو قومى أو دعم لوجستى أو اقتصادى، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن إسرائيل نفسها تعلم تمامًا أن الشعب المصرى، والقوات المسلحة المصرية إذا نفد صبرها، سيكون ذلك كارثة كبرى عليهم، بل فى المنطقة كلها، ولكن لعبة التوازن والصبر تجاه إسرائيل تجعل مصر تضع هدفًا أسمى أمامها، وهو عدم تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، وعدم تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، حتى لا تحدث نكبة فوق النكبة الحالية، فمصر أوضحت موقفها تمامًا، أنها ترفض رفضًا مطلقًا أن يكون الجانب الإسرائيلى متواجدًا على الجانب الآخر من معبر رفح، وكذلك فى محور صلاح الدين، وإسرائيل تعلم تمامًا أن مصر لو تحركت عسكريًّا، ستعيد رسم خريطة توازن القوى فى المنطقة، ولكن «صبرًا قليلًا آل ياسر».
فالقضية ليست فى المواجهة العسكرية مع إسرائيل بقدر ما هى محاولة من البعض لجعل مصر تختار اختيارًا يجعلها تضحى بدورها كوسيط يحمى ما تبقى من القضية الفلسطينية ويمنع تهجير الفلسطينيين، وهو ما تحلم به إسرائيل.
فإذا لم تقفوا خلف مصر -كما أكرر دائمًا- وتدعموها فأنتم ذاهبون إلى المجهول، وستبقى مصر بحكم التاريخ والجغرافيا وبحكم السماء فى رباط إلى يوم الدين فادخلوها إن شاء الله آمنين، وستبقى مصر، بقواتها المسلحة خير أجناد الأرض، ميزانًا وعنوانًا للتحدى فى أوقات المحن، وسيظل طوفان الأقصى امتدادًا لحرب أكتوبر 1973.
ولكن السؤال الذى لا أجد له إجابة حتى الآن: لماذا نحاول أن نسفه من رموزنا وأبطالنا والمناضلين الحقيقيين، من خلال قنوات يطلق عليها للأسف الشديد (إعلام عربى)؟! فما قامت به بعض القنوات العربية من وصف للسنوار ورفاقه بالإرهاب ضد الفلسطينيين- هو ردة إعلامية بل انحطاط وانبطاح وفراغ إعلامى لم يقم به الإعلام الإسرائيلى نفسه، فهل يعقل أن يكشف الإعلام الإسرائيلي الحقيقة ونحن نشوه رموزنا لصالح إرضاء أسيادنا وأعدائنا؟
فلا أعلم لمصلحة من تعمل هذه القنوات وعلى حساب من؟ والمصيبة الكبرى أننا نستقى كل المعلومات عما يحدث فى غزة وفى الضفة الغربية والجنوب اللبنانى من الإعلام الإسرائيلى والغربى، فهل وصلت بنا حالة الانبطاح الإعلامى إلى هذه الدرجة، وهل أصبحت إسرائيل تحدد مسارات مستقبل بعض الحكام وحياة بعض الشعوب؟ أم أن القضية أننا أصبحنا خارج الخدمة وخارج الأحداث وخارج المواقف؟! إذا أردتم أن تعرفوا كيف يكون الإعلام فارجعوا إلى الإعلام المصرى إبان حرب أكتوبر 1973.
ألا نرى ونحن مسلمون وعروبيون وقوميون أن أوروبا وأمريكا هبوا لنجدة أوكرانيا بينما نحن على العكس تحرك بعضنا لوأد المقاومة الفلسطينية واللبنانية؟ هذا هو اللغز والسر الذى ليس له إجابة فى عالمنا اليوم ولكن الحقائق ستتكشف ولو بعد حين.
إن السنوار وأى سنوار آخر امتداد حقيقى لقضية النضال الفلسطينى والمقاومة التى دفعت على مدار أكثر من 75 سنة دماءها قربانًا لمحاولة تطهير الأرض من الاحتلال الإسرائيلى ووقف محاولة تقسيم المقسَّم أصلًا ومحاولة تشكيل شرق أوسط جديد بل إقامة دول عربية جديدة بجغرافيا وتضاريس سياسية خاضعة تمامًا لإسرائيل وأمريكا.. ولكن المحزن أننا نرى ما يجرى اليوم فى فلسطين ولبنان ونحن صامتون، وغدًا ربما نراه فى سوريا والعراق، وبعد غد ربما يمتد الأمر لأبعد من ذلك.
أردت بمقالتى هذه أن أرثى أحد رموز المقاومة الفلسطينية الحقيقيين والذى سيقول عنه التاريخ والأجيال القادمة إنه حمل سلاحه حتى آخر لحظة فى حياته، لدرجة أن البعض يقول إن الجنود الإسرائيليين أنفسهم وقفوا أمام هذا المشهد النضالى يؤدون التحية، لرجل مات وهو يواجه الأعداء بنفسه، رغم رمزيته كرئيس للمكتب السياسى لحركة حماس وحاكم قطاع غزة، فهذا المشهد سيعلن ميلاد مليون سنوار آخر من كل مكان بالمنطقة العربية بعد زوال الغمة والظلمة والتهمة قريبًا بإذن الله.
وأنا أعتقد أن هذه هى بداية النهاية للكيان الصهيونى، وحلم إسرائيل الكبرى لن يتحقق لسبب بسيط أن إسرائيل إلى زوال ولكن السؤال (متى الزوال؟) فالنتنياهو أصبح هو فرعون العالم الجديد ويقول أنا ربكم الأعلى وحاكم الشرق الأوسط الجديد والعالم وأفعل ما أريد وما لا أريد!
ارحموا شهداءنا.. وخلّدوا أسماءهم فى كتب التاريخ حتى تعرف الأجيال القادمة أن هناك مناضلين حقيقيين بيننا ضحوا لأجل وطنهم وأرضهم ولم يختبئوا فى الكهوف أو فى أنفاق تحت الأرض أو فى حصون فوقها، وقاتلوا حتى صعدت روحهم إلى عنان السماء.
ارفعوا أيديكم عن السنوار وأى سنوار آخر فى فلسطين العظيمة وفى لبنان الجريح.
يرحمكم الله.