أسامة شرشر يكتب: رسالة من أبطال 6 أكتوبر إلى العرب
«مصر فيها حاجة حلوة» بأزهرها وكنيستها، بعلمائها ومفكريها، بشعرائها ومبدعيها، فهى بوتقة العالم العربى التى امتزج فيها المواطن السودانى بالعراقى والسورى والقطرى والسعودى والإماراتى واليمنى والكويتى والجزائرى، فكانت مصر هى الحاضنة الحقيقية للشعوب العربية، وكانت هى زهرة المدائن العربية التى استطاعت بجيشها وشعبها أن تحقق المعادلة المستحيلة، معادلة النصر فى 6 أكتوبر 1973 من خلال رجال رفعوا راية المجد ووضعوا أرواحهم على أكفهم بحثًا عن الشهادة فى سبيل الوطن، ومعادلة توحيد الدول العربية خلف راية واحدة وهدف واحد وضد عدو واحد هو العدو الإسرائيلى.
فى هذا التوقيت وقياسًا بما نعيشه الآن، فى زمن السوشيال ميديا والأمن السيبرانى والذكاء الاصطناعى، وما نشاهده من قنابل تلو القنابل تدق أراضينا وتقتل نساءنا وأهلنا فى غزة وفى الضفة الغربية وفى لبنان العظيم وفى الحديّدة وفى بغداد وفى دمشق، نجد أننا كنا –كعرب- فى الماضى القريب مصدر تهديد لتل أبيب وكل المدن الإسرائيلية، وكانت إسرائيل تخشى صيحة المواطن العربى من المحيط إلى الخليج.
وبعد مرور 51 عامًا، ما زال نصر أكتوبر 1973 يمثل معركة مقدسة للمصريين وللعرب، معركة عبرت الزمان والمكان والحدود، وسجلت بطولة استثنائية فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، وكان النصر ترجمة للصلابة العربية والتوحد العربى والمشروع القومى العربى الذى ظهرت فيه مواقف استثنائية وتاريخية للدول العربية، استخدمها الملك فيصل- رحمه الله- فى الضغط بورقة البترول والغاز ضد أمريكا وأوروبا، وهدد الجميع بقطع إمدادات الطاقة عنهم إذا استمروا فى دعم الكيان الصهيونى، وكتب هوارى بو مدين شيكًا على بياض للاتحاد السوفيتى لدعم مصر بالأسلحة، بل رأينا جنودًا من العراق والكويت ومن قطر ومن المغرب والجزائر وتونس يقفون فى جبهة واحدة لدعم الجبهتين المصرية والسورية.
ونتيجة لهذه المواقف الاستثنائية، وخطة الخداع الاستراتيجى المصرية، والتدريب المستمر والكفء حدث المستحيل واستطاعت إدارة المهندسين العسكريين، وعقليات القيادات وإرادة الجنود المصريين، أن تخترق خط بارليف المنيع والساتر الترابى الصعب، الذى كان أسطورة عسكرية فى هذا التوقيت، وتمكنوا من عبور قناة السويس بزوارق مطاطية وكان اختراقًا أخطر من الاختراق الذى يحدث فى لبنان أو غزة الآن، لأن خط بارليف كان خطًّا دفاعيًّا لا يمكن اختراقه نظريًّا، فهو يمتد بطول ساحل قناة السويس، ويبدأ من القناة وحتى عمق 12 كيلومترًا، وبه تحصينات دفاعية وأماكن مجهزة للدبابات والمدفعية والمدرعات تمتد بطول 170 كيلومترا، فضلًا عن تحصينات للجنود تمتد فى باطن الأرض لعدة طوابق، وتتحمل الضربات الجوية والمدفعية، وأمام كل هذا ساتر ترابى يرتفع إلى 22 مترًا، وينحدر نحو القناة بزاوية 45 درجة تجعل من شبه المستحيل على أى جندى يحمل سلاحًا وذخيرة أن يتسلقه.
فكانت خطة الخداع السياسية، وتنفيذ الضباط والجنود على الأرض لهذه الخطة، مفاجأة للجميع الأصدقاء قبل الأعداء، وأمرًا صادمًا لإسرائيل، لدرجة أن جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتها، اعتبرت المفاجأة المصرية نهاية لإسرائيل، وقالت فى كتابها (الهزيمة): «حرب أكتوبر أكبر خطر عرفته الدولة ولن أعود مرة أخرى نفس الشخص الذى كنت عليه قبل حرب أكتوبر»، وأضافت: «كان هناك تفوق ساحق علينا من الجيش المصرى، وكنا نقاسى من انهيار نفسى سحيق فور اندلاع الحرب».
ولكننا اليوم نعيش فى عالم السوشيال ميديا، والأجيال الجديدة لا تعرف قصص البطولات والأمجاد التى سطرها ضباط وجنود وأبطال مصر بالعرق والدم، فهم كانوا شبابًا لم يذكرهم الإعلام حتى الآن، واستطاعوا أن يسقطوا نظرية التفوق العسكرى الإسرائيلى برًّا وبحرًا وجوًّا، بقيادة رجال أمثال المشير أحمد إسماعيل، والفريق سعد الدين الشاذلى والفريق محمد عبدالغنى الجمسى والفريق بحرى فؤاد ذكرى، واللواء محمد على فهمى والفريق فؤاد عزيز غالى.. وتمكن خير أجناد الأرض من إحداث هزيمة مذلة بإسرائيل، واستخدموا فكرة عبقرية للضابط المهندس فى القوات المسلحة وقتها اللواء باقى زكى والتى استلهمها من بناء السد العالى، باستخدام مضخات المياه لفتح ثغرات فى الساتر الترابى واستخدام القوارب المطاطية لعبور القناة، وهو ما حدث، وقام أبطالنا بأسر عساف ياجورى، قائد اللواء 190 مدرع، ودمروا دبابات ومخازن سلاح العدو الإسرائيلى المتغطرس، بل استطاعت القوات الجوية المصرية بقيادة اللواء طيار حسنى مبارك أن تشل فى بداية الحرب القوات الجوية الإسرائيلية ودمروا طائراته وهى على الأرض لم تتحرك بعد.
هذه الهزيمة المذلة لإسرائيل لقنتها درسًا لن تنساه مهما طال الزمان، فمصر الآن تمتلك أسلحة حديثة قادرة على تهديد إسرائيل تهديدًا مباشرًا، ورغم ما نشاهده مما يجرى فى غزة وفى الجنوب اللبنانى، والدعم العسكرى اللا محدود لإسرائيل من الأمريكان والأوروبيين، فإن إسرائيل لا تقدر على استفزاز مصر عسكريًّا، وتحاول جاهدة تجنب الدخول فى مواجهة عسكرية معها.. لماذا؟ لأن العقلية العسكرية الإسرائيلية تعرف أن مصر هى الدولة الوحيدة التى تستطيع أن تدك حصون الإسرائيليين دكًّا مهما امتلكت من أسلحة، لأننا نمتلك عقيدة وإيمان الجندى والضابط والمصرى الذى يهفو إلى الشهادة، وهذا هو الفارق بيننا وبينهم، وستنضبط المعادلة أكثر وأكثر عندما يستشعر العرب أنهم يجب أن يقفوا خلف مصر بشعبها الأبى وجيشها خير أجناد الأرض.
ولكن للأسف الشديد فإن الخذلان الذى يجرى على الساحة العربية الآن لإخوتنا يدعو إلى الأسى، من كم القنابل التى يُضرب بها لبنان وشعبه العظيم ويُقتل بها نساؤنا وأهلنا فى غزة وفى الضفة وفى القدس الشريف وفى اليمن الحبيب.
أردت أن يكون هذا العدد تذكاريًّا وتاريخيًّا وخاصًّا جدًّا للرجال الأبطال الذين لم يعرفهم الإعلام وبذلوا أرواحهم وصنعوا بطولات تُدرَّس وما زالت محفورة فى وجدان هذا الشعب المصرى العربى العظيم بأسره، لتعلم الأجيال الجديدة، أجيال السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعى، أن مصر قادرة على تحقيق المستحيل بإرادة وعقول أبنائها، وأنه مهما عُقدت المعاهدات والاتفاقيات ستظل إسرائيل هى العدو الأول للأمة العربية، وأن 6 أكتوبر 1973 كان طوفانًا من الشعب المصرى متلاحمًا مع خير أجناد الأرض جنود القوات المسلحة المصرية، ومدعومًا بدعم عربى غير مشروط، واستطاع أن يهز العالم ويسقط النظريات التى صاغتها المعاهد العسكرية حول العالم باستحالة عبور خط بارليف أو الساتر الترابى، فشعب مصر وجيشها فى لحظة صادقة ومعبرة عن المشروع الوطنى للشعب المصرى والعربى استطاع العبور وتحرير كل الأرض المصرية وعادت سيناء لحضن الشعب المصرى، وعاد الشعب المصرى لتنمية سيناء من خلال المشروعات التنموية الحقيقية، وتعاون مع أهالى قبائل سيناء العظيمة للحفاظ على هذا التراث التاريخى لهذه الأرض المباركة التى باركتها السماء، وتحمل فى كبدها جبل الطور الذى كلم الله- عز وجل- فيه نبيه وكليمه سيدنا موسى- عليه والسلام.
والذى دفعنا أن يكون هذا العدد عددًا خاصًّا لذكرى حرب أكتوبر المجيدة، أن المشهد العربى الآن أصبح خارج الأحداث ويدعو إلى الشفقة نتيجة التخاذل والضعف والردة فى عدم اتخاذ موقف عربى واحد، مما جعلنا نحاول أن نعيد الذاكرة المفقودة إلى الشعوب العربية، ونقول لهم تذكروا ما حدث فى 6 أكتوبر عام 1973 من موقف عربى موحد استخدموا فيه كل أدوات الضغط السياسية والعسكرية والاقتصادية وتوحدوا؛ فكانوا قوة استطاعت أن تهز العالم وتكشف الدور القذر للأمريكان، فنالوا احترام الأعداء قبل الأصدقاء.
واليوم نجد أننا أصبحنا شعوبًا وقبائل متناحرة واستطاعت إسرائيل أن تتلاعب بنا وتخترقنا بعد أن كانت مفاتيح اللعبة بأيدينا، ونسينا فى غفلة من المكان والزمان سوريا والعراق البوابة الشرقية للأمن القومى العربى، فأصبحت إسرائيل تفعل بنا وبلبنان وغزة ما تشاء وجعلتهما هدفًا استراتيجيًّا لكسر الإرادة العربية وإذلال العالم العربى، وقالها نتنياهو «سأغير خريطة الشرق الأوسط وأنا الحاكم الجديد له وأستطيع أن أضرب أى مكان فى العالم»، وأقولها بكل صدق وبموضوعية وبدون انحياز فأنا عربى وقومى ولكننى مصرى أولًا، إنه عندما تغيب مصر عن دائرة الصراع تسقط كل الأمور والأشياء إلى الهاوية وتسقط الأقنعة، وينكشف من يريد أن يقفز على دور مصر الاستراتيجى والتاريخ ومن يهادن ومن يطبع.
فلبنان الجريح يدفع ثمن التفكك العربى وفلسطين الأبية تدافع وتحارب عن نفسها وحدها ونحن صامتون متفرجون لا نقدر أن نقول لا، وما يجرى فى غزة وفى الضفة الغربية والقدس الشريف وفى الجنوب اللبنانى وبيروت يجعل الأحجار تنطق ويجعل الناس تكفر بكل الأشياء وتبكى على ما وصلنا إليه.
أعتقد أننا فى حاجة إلى قراءة الماضى بعيون وعقول المستقبل، وأن نستعيد مواقفنا وكرامتنا وصيحة الله أكبر التى كانت تهز الأعداء وتدوى فى عنان السماء، ونستعيد ذكرى رموزنا وشبابنا وإعلامنا وجبهتنا الداخلية من المحيط إلى الخليج التى كانت تقف كالبنيان المرصوص فى وجه كل التحديات التى كانت تحاصر عالمنا العربى، ولا بد أن نعترف بأن ما يجرى اليوم يكشف الفارق الكبير بين الحقيقة والوهم، بين الرجال وأشباه الرجال، بين المواقف وأشباه المواقف، فلا بد أن نجعل أجيالنا التى تعيش وترى من خلال ما يسمى السوشيال ميديا والعالم الافتراضى يفتخرون بأناس صنعوا الأمجاد والبطولات ولم يريدوا شيئًا إلا أن يروا وطنهم عزيزًا والعالم العربى موحدًا ولكننا نعيش الآن فى زمن اللامعقول زمن الانقسام والضعف والهوان والتطبيع مع الكيان الصهيونى.
أى تطبيع يكون مع عدو يريد أن يفترس العرب ويلغيهم من خريطة العالم ويبقى هو القوة الوحيدة أو شعب الله المختار؟!.
إن ما وصلنا إليه بأيدى بعض حكامنا الذين ارتضوا أن يكونوا تابعين فى بيت الطاعة الأمريكى وليس بأيدى الشعوب.
أعتقد أن حرب السادس من أكتوبر 1973 هى إضافة للتاريخ وهى التاريخ نفسه؛ لأنها كانت آخر الحروب العسكرية الحقيقية التى استطاعت فيها مصر والعرب أن يحققوا المستحيل وهو نصر أكتوبر العظيم، بعدما رفعوا شعار (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، فأخطر رسائل حرب أكتوبر الذى صادف يوم العاشر من رمضان أن النصر لا يأتى بقوة السلاح فقط ولكن بقوة الإيمان والعقيدة والتوكل على الله.. ولا يكون المؤمن متوكلًا على الله حق توكله إلا بالثقة بالله (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).. وكانت صيحات الله أكبر أقوى من القنابل النووية.
وهكذا تكون المواجهات والتحديات، فالأموال لا تصنع الرجال ولكن الرجال يصنعون الأمجاد والبطولات.
أعتقد أن ذكرى 6 أكتوبر والنصر العظيم الذى حققه شعب مصر وجيشها فى وقت لم يكن أحد يتوقع أن تحارب فيه مصر أصلًا، جاءت فى توقيت هام لكى تكون صرخة إنذار للشعوب العربية والحكام العرب، ورسالة من أبطال 6 أكتوبر للجميع أعيدوا أمجاد نصر أكتوبر، وقفوا خلف مصر وشعبها، ولا بد أن تعرفوا أن مصر التى حباها الله وجعلها فى رباط إلى يوم القيامة، هى القائد وهى الدولة العربية الكبرى التى تستطيع أن توقف المد الصهيونى، وتجعل نتنياهو يدرك حجمه الطبيعى، ولكنكم أنتم جريتم دون تنسيق مع مصر فى مشروع إبراهام التطبيعى، وهو موقف جعلنا اليوم كلنا خاسرين، فقط لأنكم أردتم أن تقفزوا على دور ومكانة مصر فى أنها هى خط الأمان وخط الدفاع وخط الهجوم الحقيقى ضد هذه الدولة الصهيونية التى تحاول أن تستولى على كل الأراضى العربية لأنها ضمنت أن مصر تم حيادها وأن بعض الدول العربية تقف ضدها فى الخفاء ولكن ظاهرًا تدعى أنها معها.
فاليوم يجب أن نغرس حب الوطن والانتماء له- رغم الشائعات والأكاذيب- فى الأطفال والنشء الجديد؛ لأنه سلاح المواجهة القادم فحرب الشائعات لن تقل خطورة عن حرب الصواريخ وضرب القنابل، لأنها تعمل على ضرب الهوية الوطنية وخلق كثير من أبناء الوطن الواحد جواسيس لأمريكا وإسرائيل، وهذا ما يجرى الآن للأسف الشديد.
اتقوا الله فى شعوبكم
يرفعكم الله إلى السماء