أسامة شرشر يكتب: لقاء على الحدود.. فى الجنوب اللبنانى
كنت حريصًا أثناء زيارتى لبنان على أن أذهب إلى مدينة صور، رمز المقاومة الحقيقية والنضال وبلد الإمام المغيب موسى الصدر، الذى كان له موقف استثنائى أثناء الحرب الأهلية فى بيروت.. لم يكن الدين له علاقة بالسياسة عندما كان زعيمًا لحركة أمل فى هذا التوقيت، هذا الرجل بوسطيته الإسلامية الحقيقية واستنارته الفقهية الوسطية، كان التعايش بين الطوائف اللبنانية هو القاعدة المشتركة، ولا خروج ولا استثناء بين هذا وذاك لديانته وطائفيته أو مذهبه.
فكان الجنوب اللبنانى هو أحد معاقل المقاومة الحقيقية والنضال للدفاع عن الأرض والعرض أمام الكيان الصهيونى.
ونظرًا للبطولة الأسطورية لرجال الجنوب اللبنانى، لم يستطع إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلى، فى هذا الوقت، أن يوقع اتفاقًا بخروج الكيان الصهيونى والجيش الإسرائيلى من الجنوب اللبنانى بل خرج منه دون اتفاق أو شروط فى سابقة هى الأولى من نوعها لدى الكيان الصهيونى الذى يسرق الأرض ويرفض الخروج منها.
فلذلك حرصت على أن أذهب إلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وأرى على الطبيعة المشهد الذى يؤلم كل عربى وقومى يستشعر أن الأرض اللبنانية والفلسطينية التى تم اغتصابها واحتلالها فى أحلى بقعة من بقاع الدنيا تمثل لوحة جمالية ربانية لم يتدخل فيها البشر، فرأيت عن قرب الزوارق الإسرائيلية والمنطقة الفاصلة بين هذا وذاك، وقوات حفظ السلام الدولية التى لا تفعل شيئًا.
ورأيت فى الناعورة، وهى منطقة الفصل الحدودى مع الكيان الصهيونى، أجمل مكان سياحى فى العالم.. ورأيت بنفسى المنطقة المتنازع عليها فى البحر المتوسط بين الجانب اللبنانى والإسرائيلى حول الغاز والبترول فى هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة والخطيرة، لأن الأمريكان يريدون أن يأخذوا هذا الغاز والنفط اللبنانى، وتم الموافقة على الشراكة بين الشركة اللبنانية والإسرائيلية على تقسيم الغاز والبترول بين البلدين، وكأنها بداية اتفاقية سلام جديدة برعاية أمريكية.. وهذه هى الحقيقة الصادمة.
فكان هذا اللقاء عن قرب فى موقع الحدث يعطى دلالة قوية جدًا أن الكيان الصهيونى يقوم بتقسيم المقسم ما بين دولة فلسطين ودولة لبنان الشقيقة والحبيبة.
ومن العجائب أن هذه المنطقة تبعد عن أرض سيناء مهبط الأديان مسافة 200 كيلو متر فقط، وهذا هو الشىء المحزن أن الاحتلال الإسرائيلى بالرعاية الإنجليزية والأمريكية استطاع أن يقسم الدول العربية إلى أقسام متباعدة رغم أنها بحكم الجغرافيا وبحكم التاريخ قريبة جدًا جدًا.
فخرجت بانطباع حقيقى أن الخلاص الوحيد من هذا كله فى يد الشعوب العربية التى يومًا ما ستحرر جنوب لبنان وفلسطين من هذا الاحتلال الذى ضرب بكل المعايير والقواعد الدولية والمعاهدات وقرارات مجلس الأمن عرض الحائط ليحقق الاستراتيجية الصهيونية (من النيل للفرات)، وللأسف نشاهد هذا فى حالة تردٍّ عربى واضح ونحن على أبواب القمة العربية فى الجزائر، وقد علمت للأسف الشديد أن سوريا، اللاعب الرئيسى فى الملف اللبنانى، لن تستعيد مقعدها فى الجامعة العربية، وأن إسرائيل تضرب دمشق يوميًا أمام الصمت العربى والدولى كما يحدث فى فلسطين.
ولكن بعيدًا عن الأيديولوجيات والحسابات السياسية والحزبية نجد أن مجموعة شباب (عرين الأسود) غيرت المعادلة وكانوا مفاجأة للكيان الإسرائيلى نفسه بعيدًا عن حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، فهذه المجموعات الفلسطينية الواعدة المجاهدة رأت أنه لن يتم الخلاص إلا بسواعدهم وقتالهم بعيدًا عن اتفاقيات أوسلو وغيرها، وكأنها النقطة المضيئة فى سماء الشارع العربى تعيد القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء، وكأن «عرين الأسود» تطلق صيحتها الشعبية بأن التنافر بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية أصبح إلى زوال بحكم التاريخ الجديد وبحكم الحركات الجديدة من الشباب الفلسطينى الذى ليس له مصالح ولا يهتم بالاتفاقيات على حساب ما يجرى فى الأرض الفلسطينية المحتلة.
كل هذا المشهد أصبح أمامى على أرض الواقع وأنا فى الجنوب اللبنانى عندما وصلت إلى الحدود مع إسرائيل، كأن 70 عامًا مرت فى ومضة من الزمان، ونحن ما زلنا نطلق الشعارات ونتبنى الاتهامات بيننا وبين بعضنا كعرب، وضربنا فكرة التوحد العربى الحقيقى وقوة الردع العسكرية العربية التى نادت بها مصر والتى تم إجهاضها بفعل فاعل.. لأن العالم فى ظل المتغيرات الجديدة والحرب الروسية الأوكرانية لا يحترم إلا لغة القوة ولغة الاقتصاد.
ثم زيارتى مدينة صور والجنوب اللبنانى وبعلبك على الحدود السورية الإسرائيلية التى سأزورها خلال الساعات القادمة وتكون موضوع مقالتى الأسبوع القادم.
كل هذا يعيد للأذهان أن المد الشعبى القومى من المحيط إلى الخليج هو الحل الوحيد للخلاص من الكيان الصهيونى والطاعة الأمريكية فى ظل متغيرات عالمية، ولن تحمى الأوطان إلا الشعوب، ومصر ستتحمل مستقبلًا بجيشها خير أجناد الأرض أن تقود السفينة العربية مرة أخرى، لدعم كل حركات المقاومة العربية كعادتها؛ لأنها تحملت من دماء أبنائها من رجال القوات المسلحة الكثير والكثير، ولن تكون هناك دول عربية أخرى، مهما كانت قادرة، تستطيع أن تلعب دورًا بديلًا لمصر؛ لأن مصر هى الجيش والشعب والحضارة والتاريخ؛ أبى من أبى ووافق من وافق.
والأيام القادمة.. والتاريخ خير شاهد
فمصر ستعيد ريادتها لعالمها العربى والإقليمى
لأن مصر تمصّر غيرها ولا تتغير
وهذا هو قدرها التاريخى والجغرافى.
وستكون لحظة الخلاص قريبة عندما نذهب معًا إلى القدس بعد تحريرها من أنفسنا أولًا ومن الكيان الصهيونى الغاصب ثانيًا.
فالتاريخ لا يتوقف.. فهناك دول تزول ودول تبقى ودول قادمة..
وأنا أقولها ليل نهار من أعلى مئذنة فى قاهرة المعز، إن تحرير الأراضى الفلسطينية قادم بيد الشعوب العربية نفسها بعيدًا عن الاتفاقيات والأنظمة التى لها حسابات أخرى غير حسابات الشعوب.
عاش رجال المقاومة فى الجنوب اللبنانى وعاشت المقاومة الفلسطينية الجديدة فى «عرين الأسود» التى قلبت كل الموازين.
وستظل مصر بشعبها وجيشها دائمًا العمود والسند والأم والشقيقة الكبرى للدول العربية.