الشاعر عمر حاذق يكتب من داخل السجن
عمر حاذق.. اسمٌ انتقل من قوائم تكريم الشعراء، إلى سجلات مصلحة السجون.
حاذق شاعر قدير، وكاتب روائي، حصل على المركز الثاني في جائزة أمير الشعراء بالإمارات حيث تابعه العالم العربي كله، كما تم دعوته لمهرجان "الحب والسلام" في إيطاليا ممثلاً للشعر المصري. تم الحكم عليه بالسجن 3 سنوات، على خلفية تظاهره أمام مقر محاكمة قضية قتل خالد سعيد بالأسكندرية في 2 ديسمبر الماضي.
أرسل حاذق من داخل سجنه رسالة تحمل عنوان "أوسع مساحة حريتي وإنسانيتي" يتحدث فيها عن ظروف السجن، وعن عدم توقعه للحكم الصادر، لكنه يؤكد أنه سعيد بحياته في السجن ويستفيد منها، كما أشار إلى أنه تسلم نسخ روايته الأولى "لا أحب هذه المدينة" داخل السجن، وقد بدأ في كتابة رواية ثانية.
الرسالة تمت كتابتها يوم الأحد، بعد رفض الاستئناف المقدم، لكن تأخر خروجها حتى زارته أخته زهرة حاذق وتسلمتها منه. وقد قالت زهرة لبوابة الشروق، إن معنويات أخيها مرتفعة، وما يطلبه في كل مرة هو محاولة إدخال "لمبة" إليه يكتب داخل السجن، "أخويا قال إنه يقدر يستغني عن أي حاجة في الحياة إلا الكتابة."
وقد أشارت زهرة إلى أن العائلة تتواصل مع معارف حاذق في الأوساط السياسية والأدبية للتعريف بقضيته والضغط لأجلها، لأن المسار القانوني في النقض سيسستغرق عامًا ونصف كما قال لهم المحامي، والحل الوحيد لسرعة الإفراج عنه مع رفاقه هو صدور عفو رئاسي.
وإلى نص الرسالة:
أوسّع مساحة حريتى وإنسانيتى
أعلم أن أصدقائى قليلون، ولكن لهم حق على، أن أسلم عليهم، وأن أقول لهم أنا مشتاق لكم يا أصدقائى، يا أخوتى فى الحرية وفى محبة هذا الوطن المسكين، الوطن الذى يثور أحراره ليدافعوا عن الحب، لنقل حب الحياة، ليحب الفقراء الحياة أكثر، ويحب الجهلاء الحياة أكثر، ويحب المجرمون الحياة أكثر، ويعرفوا عنها ما لم يعرفوه من محبة.
أكتب لكم مساء الأحد 16/ 2/ 2014 بعد أن صدر حكم القاضى بتأييد الحكم السابق بحبسى سنتين وتغريمى 50 ألف جنيه.. دعونى أقول لكم: لم يتوقع أحد هذا الحكم؛ مع ذلك أنا سعيد بحياتى فى السجن.
كنت فى أوائل ديسمبر أخطط للسفر وقضاء إجازة طويلة خارج الإسكندرية؛ لرؤية عالم جديد، للانفتاح على حياة أخرى، والإحساس بالإنسان إحساسا مختلفا، هذا بالضبط ما أفعله الآن، على نحو أعمق كثيرا مما كنت أخطط.
فى الشهور الأخيرة شعرت بضيق شديد مما فى مجتمعنا من تمثيل ونفاق اجتماعى، ولاحظت أن كثيرا من علاقاتنا الإنسانية زائفة ومبنية على المجاملة، وبلا عمق، وزملائى فى العمل يعلمون أننى منذ شهور امتنعت تماما عن المشاركة فى أى احتفال، وطلبت عدم الاحتفال بأى مناسبة تخصنى، ولو بباقة ورد.
أشهد أننى هنا أعيش حياة حقيقية بلا زيف فيها. لا زيف فى السجن، لا معنى لأن الناس هنا تقاتل حتى تبقى على قيد الحياة، لا رغبة لأحد فى مجاملة أحد سجين.
فى السجن وجدت من يفكر ويجتهد ليجعل حياتى أجمل وأيسر، ومن يبتسم لى بمحبة وأخوة لا شك فيها، بينما قلت كثيرا لأصدقاء صدمونى منذ شهور؛ إن العلاقات الإنسانية أمر لا يجوز التفريط فيه لأن الحياة تفرق بين الناس بقسوة، وبلا مقدمات، والناس يندمون كثيرا حيث لا ينفع الندم. وقد كان..
يا أخوتى فى الحرية وفى محبة هذا الوطن الذى ينهض ويترنح، ينهض بنا فيرفسوه بأرجلهم، أريد أن أحكى لكم.. سألت نفسى كثيرا حين صدر الحكم الأول ضدى: ما معنى أن أعترض على ضرب متظاهر فيحكم على هذا الحكم؟ والحق أننى فى السجن معزول تماما، ولم أعرف بالتضامن الجميل معى إلا متأخرا.
هل يستحق الأمر ذلك؟ أقول لكم نعم. لا يتاح لإنسان أن ينمى إنسانيته ويوسع مساحة حريته إلا بثمن يدفعه، أعنى ثمنا حقيقيا، موجعا، يشعرنى أننى أشترى حريتى وقيمتى كإنسان بثمنها كاملا.
حين وصلت سجن الحضرة رتبت أغراضى القليلة ثم توضأت، وكان الماء باردا حتى أننى ارتعشت من شدة البرد، وغمرنى غم شديد: كيف أستحم والماء هنا كالثلج؟ كنت فى اليوم التالى سأعرض على قاضى التحقيق، وتمنيت من أعماقى أن يطلق سراحى ويغلق القضية (وذلك منذ أكثر شهرين).
لم أتخيل يومها كيف سأعيش وأستحم بهذا الماء وكانت الزنزانة قارصة البرد، ويجب أن استحم يوميا بسبب طبيعة حياة السجن. حكم علىّ القاضى بـ15 يوما على ذمة القضية وعشت ليلة لا أنساها، ثم حزمت أمرى وقررت الاستحمام كل يوم بالماء البارد، ثم انقطع الماء وجلست انتظره متوتراً مغموماً ثم جاء الماء فاستحممتُ وتحملتُ البرد، ولم أصدق أننى تجاوزت ذلك بقوة وبساطة، وواظبت على الاستحمام يوميا بماء كالثلج، حتى نقلت للزنزانة الدائمة، وفيها غلاية ماء (كاتل) لعمل الشاى وتسخين ماء الاستحمام، فظللت أستحم بالماء البارد ولاحظت أنه ينعشنى لأنه ينبه الحواس. عرفت أن حياتى منذ تلك اللحظة تغيرت حتى آخر لحظة فيها. لا شىء مستحيل.
فى البداية كنت أواجه مشكلات كهذه كل يوم، وأتغلب عليها لحظة بلحظة حتى تزول.
الآن أنجزت جزءا كبيرا من رواية جديدة فكرت فيها قبل دخولى السجن، بدأتها هنا وأنا سعيد بها.
منذ عشرة أيام تقريبا وصلتنى أول نسخة مطبوعة من روايتى "لا أحب هذه المدينة"، وهذا معنى عجيب: تصلنى أول نسخة من أولى رواياتى وأنا أتمتع بطعم حريتى وقيمتى كإنسان حر.. حين ينقلونا لقاعة المحكمة يرتبون استحكامات أمنية تليق بقادة الجيوش وزعماء العصابات المرعبة. إنهم يخافون منا.
الحرية مثل المرأة الفاتنة، لا تذوقها حين تتحدث عنها، بل حين تتورط فيها.
مساؤكم حرية يا أصدقاء.
عمر حاذق - زنزانة 5/ 2 - سجن الحضرة
الأحد 16/ 2/ 2014