ننشر كلمة عمرو موسي في وداع بطرس غالي بصلاة الجنازة بالكنيسة البطرسية
قام عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق ورئيس لجنة الخمسين، بحضور مراسم صلاة الجنازة للدكتور بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق، بالكنيسة البطرسية.
وألقى موسى كلمة عبر خلالها عن بالغ حزنه وفقدان الشعب المصرى لأحد أعمدته التي أثرت في تاريخ الدبلوماسية المصرية.. وكانت الكلمة كالتالي:
قداسة البابا.. السيدة الكريمة ليا بطرس غالي.. أسرة الفقيد العظيم.. أصحاب المعالي.. السيدات والسادة..
كم هو صعب علي، ولكنه أيضاً واجب علي، أن أقف لأنعي بطرس بطرس غالي.. هذه الشخصية المتفردة التي أثْرت العمل الدبلوماسي المصري، وأثَّرت في العمل السياسي العربي، وكان لها وزنها الخاص في المجال الإفريقي، ودورها المقدَّر على المستوى العالمي.
رأس بطرس غالي الدبلوماسية المصرية لسنوات عدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كان وزيراً للشئون الخارجية، ونائباً لرئيس الوزراء، وقبل ذلك كان أستاذاً في الجامعة.. مارس الصحافة ورأس مراكز بحوث ودراسات.. لقد ألّف ونشر وعلَّم.. وترك بوزارة الخارجية بصمة لا تمحى، إذ أدخل الملف الثقافي والتنويري والتوثيقي في العمل الدبلوماسي، فازداد به هذا العمل قيمة وكفاءة وتألقاً.
كان بطرس غالي على رأس المفاوضين المصريين خلال عملية السلام، فأدى أداءً رفيعاً.. كان مفاوضاً لبقاً ولكنه صعب المراس، وكان دوماً محافظاً على المصلحة المصرية.. كان في أمسيات فترة المفاوضات يجتمع بالوفد المصري ليحدد معه الحدود الدنيا، والقصوى، ومابينهما فيما سوف نفعل غداً. وتحت رئاسته كانت الوفود المصرية مرتاحة منضبطة قادرة منتجة.
وفي مفاوضات الحكم الذاتي الفلسطيني أشهد بأنه كان مدافعاً قوياً عن هذه القضية وشعبها، حريصاً على فتح الأبواب نحو إمكانيات قيام دولة فلسطين، وألا يكون الحكم الذاتي نهاية المطاف بل بدايته، وكان ذلك موقفاً استراتيجياً مقدَّراً ومسجَّلاً.
كان بطرس غالي شديد الاهتمام سديد الرأي فيما يتعلق بإفريقيا، وعلاقات مصر بها وحركتها فيها. وفي الواقع كانت إفريقيا هي التي في البداية اقترحته ليكون الأمين العام للأمم المتحدة ممثلاً لها وأميناً على مصالحها.
لقد تعلمت منه شخصياً، ومعي جيل بأكمله من الدبلوماسيين المصريين وغيرهم، الكثير في هذا المقام، حتى أنني فور أن أصبحت وزيراً للخارجية جعلت إفريقيا والتجول بين ربوعها، وخلق وتأكيد المصلحة المشتركة معها على رأس أولويات السياسة والدبلوماسية المصرية، وفي ذلك كان بطرس غالي هو الرائد والمثل الذي يحتذى.
كما كان بطرس غالي واعياً لبعد التنوير الأوروپي، والعلاقة المتوسطية أو البعد المتوسطي في السياسة المصرية.. ولا ننسى هنا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب تنصيبه أشار في باب المصالح المباشرة لمصر إلى أن مصر دولة عربية إِفريقية متوسطية.
وقبل كل ذلك وبعده كان بطرس غالي أستاذاً للتنظيم الدولي حتى أصبح على رأس أكبر منظماته، ولو قُرِّر له أن يستمر أميناً عاماً للأمم المتحدة لفترة ثانية لتمكن من تطوير هذه المنظمة، بل إعادة الشباب إليها، وإعادة صياغة دور الأمين العام للأمم المتحدة ليحقق له عنصر التوازن والاستقلال الذي يفتقده هذا المنصب، ولأسهم في إقامة توازن استراتيجي بين الدول المتقدمة والدول النامية في إطار نظام دولي مختلف كان رهن النقاش الجاد في بداية التسعينيات من القرن الماضي وقت أن كان بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة ولكن للأسف حيل بينه وبين الاستمرار في منصبه.
وأخيراً، لا يمكن أن أنسى الجوانب الإنسانية في شخصية بطرس غالي المحببة إلى نفس كل من عرفه، والتي كان لي حظ أن أقترب منها كثيراً.. لم يكن يسمح بأن تنقل إليه نميمة، وإن قيلت اعتبرها طرفة ومادة للمزاح لا أكثر.. كان كبيراً مترفعًا عن الصغائر، شامخاً في شخصيته... كان لبقاً، مرحاً، ودوداً، بشوشاً، سهلاً، مرناً بقدر ما كان جادَّاً، حادَّاً، صلبًا.. كلٌ في حينه.. كلٌ في وقته، وكله مُجَيَّرٌ للمصلحة العامة.. مصلحة مصر، وليس إدارة المؤسسة التي يرأسها سواء أكانت وزارة الخارجية المصرية أو منظمة الأمم المتحدة.
لقد خسرنا وخسرت مصر علماً من أعلام الأمة، ورائداً من خيرة روَّادها، ومثالاً لممارسة الوطنية، وليس فقط الشعور بها، أو التحدث عنها، فما بالكم بالتشدق بها.. كانت الوطنية لدى بطرس غالي عملاً وأداءً وإنجازاً.. كانت الوطنية لديه ثقافةٌ ومسئولية.
وبعد أيها السيدات والسادة.. لقد فقدنا في يومين متتاليين هامتين عاليتين، وشخصيتين رفيعتين باهينا بهما مجالات دولية ومهنية عدة، هما بطرس بطرس غالي ومحمد حسنين هيكل رحمهما الله وعوض مصر فيهما خيراً.. ليا.. كل العزاء لك، وسنظل حولك كإخوتك.. لقد أحببناكما معاً.. وسوف نظل نحبكما.
تابعنا على فيسبوك