النهار
الإثنين 23 ديسمبر 2024 01:10 صـ 21 جمادى آخر 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

ثقافة

قراءة في كتاب ”نظام التفاهة” للكاتبة سميحة المناسترلى.. الجزء الثانى

عزيزي القارئ ذكرنا بالجزء الأول من القراءة، نبذة عن كتاب "نظام التفاهة" والذى صدر عام 2017م للفيلسوف الكندي ( آلان دونو) خريج جامعة باريس، وهو المحاضر بجامعة كيبك بمونتريال، وقامت على ترجمته د. مشاعل عبد العزيز الهاجري اعتمادا على النسخة الأصلية بجانب الإنجليزية المترجمة، ويتكون الكتاب من أربعة فصول "المعرفة والخبرة – التجارة والتمويل- الثقافة والحضارة - ثورة إنهاء ما يضر بالصالح العام- خاتمة الوسط المتطرف" من خلال 368 صفحة.

ونستعرض سوياً في هذا المقال الفصل الأول والثاني وهما : "المعرفة والخبرة، التجارة والتمويل" أتمنى أن يصل هدف الكاتب بأسلوب مبسط، حيث أن الكاتب اعتمد على توثيق مضمون المؤَلَف بأمثلة عديدة، استشهادا بعشرات الأقوال والمراجع إثباتاً وتأكيداً لنظريته، وهذا ما نجحت المترجمة في توثيقه، من خلال هوامش عديدة ثرية أنصح القارئ بالمرور عليها في حال قراءة النسخة الأصلية .

أولاً وأخيراً فإن لكل قارئ جهده وقناعاته وانطباعاته الخاصة فيما يحصله من قراءات، فما يقدم هنا هو عرضا محايدا، سأترك "قناعاتي الشخصية" وأقدمها خلال المقال الأخير، بعدما يتم استعراض ما قدمه الكاتب الفيلسوف (آلان دونو).

تطرق الكاتب بالفصل الأول إلى جزئية هامة جدا، فبدأ بقمة الهرم الإجتماعي (الفئة النخبوية) في أي مجتمع ودولة، كما تصنف بأنها "كريمة" المجتمعات، والتى تتكون من العلماء والأساتذة وهيئات التدريس العُليا بأمريكا وكندا والدول الأوربية المتقدمة، مستشهدا بأقوال ووقائع بعينها تؤكد نظريته من حدوث تغيير بتركيبة وأهداف هيئات التدريس - خاصة المناصب المسئولة – ومسئوليتها المباشرة لما حدث من تدني بمستوى التحصيل والثقافة العلمية المتنوعة، والذي ارتبط بمصطلح التخصص، عندما بدأت بتخصصات كبيرة هامة إلى أن تحولت إلى تخصصات متناهية الصغر ومتفرعة وعديدة تعمل على تطوير المجالات التجارية، التى تخدم المشاريع الإستثمارية الضخمة الخاصة بشركات النفط والعقار والطائرات وغيره، حتى تعود على الجامعات بالتمويلات الضخمة، وعلى الأساتذة بالمناصب والتدرج الوظيفي السريع، والحصول على المنح المختلفة، والحفاظ على الوجاهة الإجتماعية والوظيفية، وكانت هذه قناة الربط بين الدراسات والأبحاث العلمية والإبتكارات، والتى انحصرت فيما يفيد الاقتصاد من خلال مصالح الأفراد والشركات العملاقة وليس بغرض فائدة تعود على المجتمعات والشعوب من صحة وتعليم .. إلخ، بما أطلق عليها مصطلح (كيفية لعب اللعبة) .

منطلق انتقادات الكاتب لهذه "اللعبة" أنه يؤمن بأن رسالة العلم والتدريس والأبحاث يجب أن تكون على نطاقات أوسع وأشمل تعتمد على القيم العلمية والفكرية التى تخدم البشرية، والمطالبة بتثقيف الدارس من مختلف التخصصات بالإضافة للتبحر بتخصص أو أكثر، فلا يجب حصر أبحاثه وابتكاراته فيما يفيد التجارة ورجال الأعمال، والمشاريع الضخمة فقط ليحظى بلقب "الخبير المتخصص" أو بعض المنافع الأخرى فيصبح خبير في منحى ويصبح تحصله مهمشاٍ، ولا يعلو عن المتوسط بباقي المناحي المتعددة .

وقد وضع الكاتب بعض الأمثلة "لنظام الحوكمة" والذي خلق لتحقيق التوازن الإقتصادى والتجاري بين مصالح المؤسسات وأفراد المجتمع، وتطبيقه على أرض الواقع قدر المستطاع، وبالرغم من أنه خُلق ليتماشى مع البيئة التجارية، إلا أنه تم إقتناصه ليتم نقله إلى العالم السياسي بعهد "مارجريت ثاتشر" مما حول المناخ السياسي الذي يتميز بالقيمة والخصوصية، إلى مجرد "عمل إداري" لا أحد يتبع القيمة، والحق والعمل للصالح العام، بل نظام خالى من الحث على الإلتزام، والمثل العُليا للمواطنة، وبالتالي تم تحويل المشروعات العامة إلى مجرد شركات تجارية، مما أدى إلى مجتمع خالى من القيمة الحقيقية ساعياً إلى المكسب السريع، ممارساً لنظام التفاهة.

أوضح الكاتب أن نتيجة الإتجاه إلى نظام الرأسمالية البحتة، والبحث المجرد عن المكسب أدى إلى اندثار تدريجي "للحرفة"، والسعي الحسيس "للمهنة " !!، وقد استشهد الكاتب بفلسفة - فريدريك فون هايك - (بتحجيم دور الدولة لتقتصر على الأمن الداخلى والخارجي والقضاء) ذلك على عكس فلسفة – جون كينز - التى تؤكد على أن من واجب الدولة التدخل في السوق "كأصل للحماية المجتمعية للأفراد"، منتقلاً بعد ذلك إلى دور البورصة العالمية وأسواق المال المتحكمة في الأسواق، والتى تعتمد على جهل المواطن ببواطن لغة الخوارزميات التى قام "خبراء متخصصون" بتغذيتها لأجهزة الكومبيوتر، فهي في صراع دائم لخلق أزمات ما بين مكاسب وخسائر كارثية أحياناً، تمثل متاهات للمواطن "غير المتخصص".

أيضاً تعرض إلى خطورة تهميش الحرف والمشاريع الإقتصادية الفعالة للأيدي الحرفية، خاصة بالسماح للصين بغزو السوق الأمريكي، جعلت من الشعب الأمريكي شعباً مستهلكاً يفتقر لأصول "الصنعة أو الحرفة"، مما يجعله يندرج إلى فئة التفاهة في العمل، غير متناسي آلاف الخريجين وغيرهم الذين يعملون فى الجامعات والشركات بعقود مؤقتة مهددين بالفصل أى وقت، مسترسلاً إلى العلاقة المبتزة من جانب أصحاب رؤوس الأموال للنقابات العمالية، ولدور التحكيم الدولي الذى أصبح هامشي يبتلعه نظام الفساد والتفاهة لصالح حيتان الصناعة والمشاريع الضخمة، مما أدى إلى ترك القيمة الحقيقية والنظر لها بتشكك، والإلتحاق بالطريق المعاكس "نظام التفاهة" .

وإلى موعدنا بالمقال القادمِ، ورأى الكاتب الفيلسوف "آلان دو نو" وقراءة بالفصلين الثالث والرابع .