شعبان خليفة يكتب : نيل مصر واللطف الإلهى
هناك جانب لا يمكن إغفاله فى الأزمة الاقتصادية التى تمر بها مصر، فهى ليست كالشدة المستنصرية ببشاعتها فى العصر الفاطمى بمصر التى أكل فيها الناس لحوم بعضهم البعض وأكلوا لحوم الكلاب والقطط، وليست كعام الرمادة الذى حدث فى العام الثامن عشر من الهجرة فى السنة الخامسة من خلافة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، والتى تزيد على عشر سنوات.
فكلاهما الشدة المستنصرية وعام الرمادة كانا نتيجة تضافر الظروف الطبيعية «الجفاف تحديدًا» مع أوضاع اقتصادية متردية ترتبت على ذلك، ففى كليهما حدث جفاف وقحط رهيب.. فى الشدة المستنصرية جف النيل؛ فعانت مصر العطش والجوع سنوات، ولكن نحمد الله أن نيل مصر ما زال يجرى رغم المخططات والمؤمرات فى منابعه.. وفى عام الرمادة توقف المطر فى المدينة المنورة والأماكن المحيطة بها؛ فبدت الأرض كأنها هشيم محترق حتى كان التراب حين تحركه الرياح أشبه بالرماد؛ ولهذا سُمِّى العام عام الرمادة من سواد التربة.
كلاهما كان المخرج منه حسن التدبير والإدارة والتخطيط، ففى الشدة المستنصرية أدار الأزمة باقتدار الوزير بدر الدين الجمالى الذى استعان به الخليفة المستنصر؛ ففرض الأمن ورتب الأعمال والأشغال وكرمه المصريون بإطلاق اسمه على منطقة الجمالية بالقاهرة، وعام الرمادة أداره الخليفة عمر بن الخطاب بحكمة بالغة فى ضبط الأسواق وتوزيع الطعام وتطبيق فقه الأزمة، وقد كان عمر، رضى الله عنه، يقول للناس «لعلكم ابتليتم بى أو ابتليت بكم، فمن كان فينا على غير الطاعة فليتب»، ولأن الأزمة كانت فى منطقة المدينة المنورة وما حولها زحف سكان ما حول المدينة نحو المدينة لطلب النجدة من الخليفة الذى كان يعانى مثلهم وربما أشد فقد كان طعامه الخبز والزيت فحسب، وحين رأى فى يد ابنه بطيخًا غضب وقال «ويل عمر يأكل أهله فاكهة والناس هزلى».. وقد كتب رضى الله عنه لولاة الأمصار فى مصر والشام رسالة لا تزيد على ٣٠ كلمة طلب فيها الغوث.. أبرز رد كان من مصر من عمرو بن العاص (أرسلنا لك قافلة أولها عندى وآخرها عندك وابحث كيف أركب البحر بمدد إليكم).
وقد أوقف عمر بن الخطاب حد السرقة، ليس هذا فقط ولكن اتخذ عشرات القرارات للمواجهة، منها مثلًا أوقف الغزوات والفتوحات رحمة بالجند، وأمر قواده ألا يحاربوا إلا للدفاع فقط، وطبيعى أوقف جمع الزكاة فى المدينة نتيجة تأثر دخول الناس وغير ذلك من الأمور، لكن هناك أمر هام لا يجب إغفاله أجمع عليه كل مؤرخى هذه الفترة وهو أن عمر لم يدر الأزمة بصورة منفردة بل كان يلزم كتاب الله، فإن لم يجد فيه الجواب لجأ للسُّنة، فإن لم يجد فيها جمع أهل العلم من زمنه وشاورهم فى الأمر؛ ولذا هو صاحب منهج لا صاحب قرار فردى وصاحب منهج له قواعد رصينة ومرجعية ملزمة.. قوامها حسن التصرف بحكمة مسئول يقدر حجم مسئوليته وما يلزمه من قرارات للخروج من الأزمة؛ فجاء الفرج والرجاء بعد أقل من تسعة شهور فقط.