النهار
الأحد 22 ديسمبر 2024 11:19 مـ 21 جمادى آخر 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

مقالات

كمال رمزي يكتب: نور.. السينما

كمال رمزي
كمال رمزي

ليس بالموهبة وحدها يلمع الفنان، لكن قوة حضوره، ž واستمراره وتألقه أمور لا تتحقق إلا بالدراسة والدأب والجدية.

هذا هو درس نور الشريف الذى يمنحنا إياه، والذى طبقه على نفسه حتى بعد أن أصبح استاذا ونجما شهيرا وعلما، موثوقا فيه.. طوال حياته ظل يتعامل مع نور الشريف على أنه تلميذ يليق به ألا ينسى ما تعلمه، وفى ذات الوقت يواصل تحصيله للمعرفة.. لذا فإن مقر شركة الإنتاج التى كونها مع زوجته الفنانة بوسى باسم «إن بى» لا تشبه مكاتب الانتاج ذلك أنها أقرب لدار كتب خاصة، رفوفها تضيق بالمراجع والسيناريوهات والروايات والمسرحيات، فضلا عن أكوام من المجلات والجرائد.

استقى نور معارفه من ثلاثة مصادر: أساتذته، الكتب، الحياة.. في معهد الفنون المسرحية تعلم من المخرج المسرحى الكبير نبيل الألفى أن الصدق الداخلى فى المشاعر ليس كافيا فالأهم: كيف يعبر عما يجيش فى صدرهž أن يتمكن بنبرة الصوت المنخفض وحركة اليدين المقتصدة من اقناع المتلقى بصدق ما يراه.. أستاذ آخر، لم يأخذ حظه žمن الشهرة، اسمه على فهمى تعلم منه «فن الخيال» ان صح التعبير فى أحد مشاهد التدريب يقوم الطالب

شاكرعبداللطيف بدور ضابط يحقق مع الجندى الرعديد «نور الشريف» داخل خندق.. بعد الانتهاء من الأداء تطلع نور الأستاذة بعيون قلقة لا تخلو من رجاء وأخذ يصغى بكل žكيانه لتقييم على فهمى الذى قال: أنت لم تعطنى الاحساس بالزمان والمكان. عليك تحديد التوقيتات هل يجرى التحقيق فى أثناء النهار أو الليل، الصيف أو الشتاء وبالتالى، هل يتصبب عرقا أم يداهمه الصقيع.. ثم، هل الخندق ضيق أو متسع هل به دورة مياهه.. كل هذا سيفيدك فى طريقة التعبير، بخصوصية عن الجندى إلى عديد، الذى من الممكن أن يهاجمه الصداع أو تتملك الرغبة فى التبول، أو تنتابه نوبة سعال.

عقب تخرجه فى عام 1967 ، التقى حسن الأمام عن طريق عادل إمام.. حسن الإمام، أسند له دور كمال عبدالجواد فى «قصر الشوق» وفى أقل من عشر كلمات واضحة حاسمة بين الأستاذ بجلاء، للوجه الجديد، نور، الفارق بين الأداء السينمائى والمسرحى، بقوله: أمام الكاميرا، انطق الكلمات
بملامح وجهك قبل أن تنطقها بصوتك.

نور الشريف هو ابن السينما المصرية بامتياز.. فإلى جانب أساتذته المباشرين نهل الكثير من أساليب كبار ممثلينا فى إحدى زياراته رأيته يستعيد على الفيديو مشهد زكى رستم فى «الفتوة»، لصلاح أبوسيف، حين يحيى فريد شوقى ليلة زواجه.. رستم، الذى أدرك تآمر فريد ضده، يمتلئ بالغيظ، يبتسم وهو يضغط على حروف الكلمات، ناظرا فى عين žالخائن قائلا «الجدعان.. الأندال لأ»، نور، ينتشى كلما أعاد مشاهدة الموقف.

فى مسلسل «لن أعيش فى جلباب أبى» لأحمد توفيق 1995، الذى كتبه مصطفى محرم عن قصة لإحسان عبدالقدوس ينتقل عبدالغفور البرعى من حال لحال، أصبح معلما كبيرا بعد طول شقاء، وكان لابد أن تتعبر ملابسه.. بعد تفكير، وجد نور ضالته عند الممثل «محمود إسماعيل» في «سمارة» لحسن الصيفى 1956، فورا، قرر محاكاته، وفعلا استبدل الطاقية بشال أنيق مع حذاء لامع ومعطف أسود من الصوف التقليدى، تحته جلباب نظيف يغطى žالسروال الطويل والصديرى بإحكام.

قرقر أنور دوستو يفسكى وشكسبير ونجيب محفوظ ž ويوسف إدريس، وجد عند كل منهم تحليلا بارعا دقيقا للنفوس البشرية ورصدا مدهش لتفاصيل التصرفات بمافى ذلك تجسيد طريقة المشى، تحريك اليدين، نوع النظرات، تغير ملامح الوجه.. إنهم عنده مع آخرين أساتذة فى الأداء.

أما عن الحياة فإنها الكتاب الشامل بالغ الثراء تعطى الكثير لمن يلتقط مفرداتها.. نور، تعلم كيف يرصد ما يراه، يحلله، يستوعبه، يفرزه بطابع جديد، بعد أن يقوم بعملية مزج ومونتاج لما لاحظه، فإلى جانب من عرفهم من رجال
يتفهمون الحياة برغم عدم حصولهم على شهادات، كما žž الحال بالنسبة لعبدالغفور البرعى، أخذ شكله الخارجى من عمال التراحيل الذين يجلسون كل صباح، عند سور نادى الزمالك بانتظار من يطلبهم للعمل: الجلباب المقطوع من الجنب «المداس» القديم كاتم اللون، تشقق الكعبين، خشونة الكفين، الذقن غير الحليق ربط الطاقية حول الرأس بقطعة قماش.. والأهم: تلك النظرة المستكينة، المستسلمة، التى تلتمع بالأمل عندما يقترب منهم أحد ربما يطلب عمالا.

نور قدم عشرات النماذج من قلب المجتمع باتجاهاتهم المتباينة خلال ما يقرب من المائتى فيلم، ورغم أن الشخصيات التى جسدها من أهم وسائل معرفة مصر فى الأربعة عقود الأخيرة، ولأنه أعطى حياته كاملة للفن الذى يعشقه مدعوما بالوعى والمعرفة والإخلاص لذا غدا جزءا مضيئا من تاريخ السينما المصرية.

نقلا عن الزميلة الشروق