النهار
السبت 28 سبتمبر 2024 05:16 مـ 25 ربيع أول 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

عربي ودولي

جهود الرئيس بن علي لترسيخ المشاركة السياسية

جهود الرئيس بن علي لترسيخ المشاركة السياسيةقليلة هي النظم السياسية التي كثيرا ما تعمد تلقائيا إلى شعوبها لاتخاذ القرارات في المسائل الوطنية والقضايا الأساسية، وغالبا ما يقدّم بلد كسويسرا باعتباره أنموذجا في هذا الخصوص. ولكن نجد اليوم بلدا مثل تونس، يعمد رئيسه باستمرار إلى استشارة شعبه في مختلف القضايا الجوهرية والوطنية ، يمثل هو الآخر أنموذجا متفرّدا في هذا المجال بالتحديد. فالأسبوع الماضي أعلن عن استشارة شعبة واسعة تتعلق بقطاع الطفولة، وذلك بعد أسابيع قليلة من الإعلان عن استشارة وطنية ستنظم في أواخر شهر مارس المقبل.لهذا، فإنه عندما يقول المجتمع التونسي أنه يفخر بالأنموذج الحضاري الذي يعيشه في هذه المرحلة من تاريخه فإنه يحق له بالفعل أن يفخر، وهو الذي يشارك في اتخاذ القرارات وتحديد التوجهات العامة، والتي كان من أبرزها السنة الماضية إجراء أول استفتاء تعلّق بتعديل جوهري للدستور.فهذا المجتمع يبني أنموذجا مجتمعيا يتميز بعديد الخصائص التي تفتقدها مجتمعات أخرى، وتحتاجها مجتمعات ثانية، من أجل تحقيق التطور المنشود في سياقات تاريخها. فلقد تمكنت تونس في ظرف زمني وجيز من أن تنشئ مجتمعا قوامه التوازن والتضامن والعدالة الإجتماعية والإقتصادية، ينهل من ماضيه العريق ويطور واقعه البنّاء ويؤسس لمستقبله المشرق. وقد انخرطت مختلف الشرائح والفئات في نحت ملامح هذا المجتمع ، بعد أن تمّت بلورتها ضمن مشروع متكامل حدّد التحول السياسي الذي جاء به الرئيس بن علي سنة 1987 دعائمه وخصائصه وآليات تطوره نحو الآفاق المستقبلية الرحبة.والانخراط الجماعي في نحت مشروع مجتمعي ليس سهلا، لأنه يحتاج لثقافة سياسية ولوعي مدني، وأساسا لتشبع عام بمفاهيم الديموقراطية المتجددة، تلك التي لا تكون نقلا عن نماذج وافدة، بل مبنية على خاصيات ومميزات المجتمع ذاته، وعلى حاجياته وطموحاته الوطنية. وهذا ما يحدث بالفعل في تونس اليوم. فلقد أدت الثقافة السياسية الجديدة التي جاء بها التحول إلى تعزيز نشر واسع للمفهومين في مختلف أوساط الأفراد والمجموعات: الوعي المدني والديموقراطية.فالوعي المدني انتشر أكثر بفضل سياسات التعليم وإشاعة روح المسؤولية ومبدإ المواطنة لدى الناس، وخاصة في أذهان الناشئة التي سوف تشكل أجيال التغيير في المستقبل. وكان من أفضل آليات الثقافة المجتمعية الجديدة ما شهده المجتمع من دعم وتطوير النسيج المدني، وتضاعف عدد الجمعيات والمنظمات الوطنية، الحكومية منها وغير الحكومية، وهو ما يطلق عليه في الديموقراطيات الحديثة المجتمع المدني. فتونس انطلقت مبكرا في العمل من أجل بناء ذلك المجتمع المدني نظرا للإدراك السياسي المبكر لأهميته القصوى في تحقيق تطور المجتمع على المستوى الفكري والحضاري، وليس فقط على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وأوكلت لهدا النسيج المجتمعي مهمة تأطير المجتمع ونشر مبادئ الوعي والمدنية والمسؤولية، وخصوصا روح المواطنة بين أفراده.وكان لذلك أثر بيّن في تقبّل المجتمع لخصوصيات المنهج الذي أقرته تونس لنفسها في مجال الديموقراطية. إذ اكتسب التونسيون سلوكا مميزا في هذا المجال جعل من التجربة التونسية في وقت لاحق أنموذجا يحتذى على صعيد البلدان الصاعدة. ومن أهم سمات تلك التجربة أنها تمسكت بخصوصيات وحاجيات المجتمع التونسي بحسب نضجه ومدى تطوره وتأهله لدخول كل مرحلة من مراحل الممارسة الديموقراطية. فالممارسة كما عاشها المجتمع التونسي هي حلقات مترابطة، لا تبلغ واحدة حتى تستوعب سابقتها بالوعي والاستيعاب والتشبع بها ، بفعل آليات متعددة من أبرزها الجرعات المتتالية من التعددية السياسية في المؤسسات الدستورية، والتي بلغت اليوم نسبا عالية في مجلس النواب والمجلس الاقتصادي والاجتماعي مثلا، ومنها الثقافة السياسية التي نشرها التحول في المجتمع، وكذلك الوعي المدني المتنامي الذي تكفلت به التنظيمات المجتمعية ونجحت فيه.على أن من أهم المميزات التي اختصت بها التجربة التونسية هي اعتماد مبدإ ديموقراطية المشاركة كأحد مكونات المنهج الذي تم إقراره في هذا المجال. وتعكس هذه الخاصية انتشار الفعل المدني لترسيخ التمشي الديموقراطي كله، فهو بذلك ليس سلوكا مقتصرا على الأطراف المتحركة في المجال السياسي، كالأحزاب، لكنه سلوكا عاما يهم الأفراد والفئات والجهات، فهو مشغل من المشاغل الجماعية، التي تمسّ الحياة العامة ويهم السلوك العام والطموحات الوطنية. من هنا تبرز أهمية انتشار الفكر التعددي المكرس للتنوع الفكري وللخلاف في الرأي،، كما تبرز قيمة المشاركة الجماعية في التصور والتخطيط والتجسيم للتوجهات والخطط التنموية المتوسطة والبعيدة المدى، وغيرها من القضايا الأساسية من خلالفمنهج المشاركة ترسّخ في تونس، وطال مختلف المسائل والقضايا الهامة. وكان أولها المسار التنموي إذ اشترك في وضع كل واحد من المخططات التنموية في عهد التحول أكثر من 7 آلاف مواطن يمثلون الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والتنظيمات المجتمعية وذوي الكفاءات وغيرهم، من خلال حلقات متصاعدة تنطلق من الجهة إلى المستوى الإقليمي بين الجهات وصولا إلى المستوى الوطني.وطالت صبغة المشاركة القطاعات الواسعة في المجتمع، والفئات المعنية بالقضايا التي تطرح للرأي والتقييم. فموضوع الشباب كان محل استشارتين شارك في كل منها أكثر من مائة ألف شاب، كما أنجزت في العام الماضي استشارة وطنية وإقليمية موسعة حول اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي الموقعة سنة 1995، وأخرى شارك فيها الآلاف من المثقفين والمنتسبين للنخبة التونسية تنفيذا لقرار كان قد اتخذه الرئيس بن علي ويقضي بطرح استشارة ثقافية لمعرفة مستقبل تونس في عيون مثقفيها.وتجسيما لهذا التوجه المجسم للمشاركة الشعبية الواسعة في إقرار التوجهات العامة وتحديد ملامح الخطط الوطنية حول قضايا أساسية، ستشهد تونس هذه السنة استشارتين وطنيتين تتعلق الأولى بقانون المرور. فهذا القانون مرت على إصداره ثلاث سنوات، لكن مجال تطبيقه مرّ بصعوبات في عدد من بنوده، لأسباب مختلفة، وهو ما ارتأت الدولة أن يعرض على الرأي العام الشعبي لمعرفة تلك الأسباب وإن كانت هناك ضرورة للتعديل أو التراجع في بعض تلك البنود مثل النزول بالأهلية لامتلاك رخصة السياقة إلى 18 سنة، وما نتج عنه من انعكاسات.أما الإستشارة الثانية فهي تلك التي أعلن عنها بمناسبة العيد الوطني للطفولة يوم 11 جانفي ـ يناير ـ 2003 ، وسيستهدف الخطة العشرية الثانية للنهوض بهذه الفئة الأساسية من المجتمع، وذلك في سياق خطة النهوض الشامل بالأسرة والمجتمع. ولأن الطفولة تهم الجميع، ولأنها تمثل عماد المستقبل، فإن الجميع معني بموضوع تطورها ونموها، لذلك فإن كل الآراء ـ في هذا المجال كما في غيره ـ تؤخذ في الاعتبار لتفرز توافقا في الموقف العام تستأنس به السلطة المسؤولة أو الجهات المكلفة بوضع الخطط والتصورات في المجالات العامة منها والقطاعية، لتصبح برامج قابلة للتجسيم والتنفيذ.