ادب الفكر التكفيري.. التأصيل الأدبي لإتجاهات الأسلام السياسي المعاصرة
الثقافة مرتبطة ومتشعبة بكافة المجالات، فلا يمكن فصل الثقافة من حيث كونها منهج مطمور في سياقات مختلفة عن الأفعال الأجرائية للبشر. فالبشر يعبرون عما بداخلهم من خلال حصيلة لغوية ومنطق فريد لكل منهم، كمجتمعات وعشائر ودول وحتى أقليات، ذلك النتاج يتضح في كتابات تعبر عن اما ظرف تاريخي او احداث داخليه يطمح بها كل منهم لنشر كلمته، في عصر كانت الكتابات هي اهم وسيلة لنشر الأفكار بين البشر
حاول بعض هؤلاء السير نحو الأبدية من خلال اعمال يتركوها لمن بعدهم قد تكون عبارة عن عمل ادبي او فكري او شعري او ربما سيرة ذاتية تهتم بالتأريخ الشخصي والاجتماعي للفرد في مرحلة في مكان ما، اوربما رصد لمألاتهم كتحولات ايدولوجية وسيكولوجية خاصة بهم، وهي الأعمال التي تتحول فيما بعد لنصوص مؤسسة لتلك الأفكار مكونة مذاهب مختلفة وان تلاقت في نقاط معينة الا انها تسعى للتفرقة بتأصيل وتمجيد كل شخصية لخلق اتباع وايضاً لأستخدام مفهوم المظلومية فيما بعد. وذلك بحسب دراسة سباستين جوركا حيث تناول اربع شخصيات مركزية في الفكر "الجهادي" بحد وصفه، محاولاً فهم ايدولوجياتهم من منطلق "أقرأ ما يقولونه". (ورقة علمية منشورة من معهد وستمنستر)
تلك الكتابات او بعضها غير متداولة وغير متاحة للنشر في بعض الدول والأقاليم (سوريا كمثال)، لفرض الرقابة الصارمة عليها نتيجة لتحريضها العنفوي على المجتمع والحكومات باعتبارها فاسدة او كافرة وان كانت تتخذ الشكل الأسلامي من وجهه نظرهم. ولكن هذا لم يمنع تداولها خفية بالداخل او تبني بعض الناشرين الأجانب لتلك الاعمال لأهداف سياسية خالصة. وان كان توجهنا هنا طرح نماذج ادبية لتلك المجموعات الا اننا نلقى الضوء على نصوص مؤسسة ولم ولن تندحر وستظل موجودة، لم تنقد او تفند بالشكل الكاف وايضاً جعلها في محل المنع هو ما يمنحها قوة خفية في نفوس بعض ضعفاء النفوس في اعتناقها، وبالتالي فهي منفذ لعودة تيارات اسلامية ونموها من جديد بدلاً من إستئصالها من جذورها.
لن أستعرض الأعمال الكاملة بل الأعمال المركزية لدى بعض النماذج الحديثة والمعاصرة، تتبعاً لمفهوم الأدب بكافة توجهاته كانت، سياسية، اجتماعية، شعرية او ربما سيرة ذاتية.
ابو الأعلى المودودي (الخلافة والمُلك)
كثيراً ما يعتبر الباحثين ان فكرة الحاكمية مؤسسة من قبل المودودي، ولكنها فكرة سابقة عنه تاريخياً وفقهياً، حيث ان الفكرة قديمة قدم النزاع بين الصحابة والتي أدرجت في التاريخ الأسلامي بأعتبارها سابقة سياسية تاريخية مركزية.
تلك الفكرة لاقت صدى للعلماء المسلمين والباحثين للسعي حول مشروع سياسي اسلامي خالص، وهو الأمر الذي اخذ اتجاهات سياسية بصبغة اسلامية واحياناً بصبغة دينية، التاسيس التاريخي سبق واشرنا اليه، اما عن السبق الفقهي فهو موجود عند الشاطبي في القرن السادي الهجري ( كتاب "الموافقات")، والذي اتخذ من مفهوم الحاكمية قضية لم يتناولها بالشرح وبالأسهاب والخوض فيها لبيان مركزيتها في الفكر الأسلامي.
ما لبثت ان تبلورت الفكرة عند المودودي ليحاول تأسيس مذهب سياسي إسلامي يعتمد بحسب زعمه على الحاكمية لله، تأصيل فكرة الخليفة او الحاكم بنصوص القراءن كلام الله، وهو الأمر الذي ينطوي على يوتوبيا ونواقض كثيره في منهجه.
تلك كانت اهم افكار المودودي السياسية والتي جمعها في كتابه "الخلافة والملك" المؤسس لفكر الحاكمية في الفكر التكفيري او ما يسمى بالجهادي عند بعض جماعات الأسلام السياسي وايضاً داعميهم.
على الرغم من عدم تناول المودودي بخبرته العلمية والتاريخية اي شأن بأتجاهات الأدب، وانما انصب بحثه على الأفكار الأسلامية في سعي حثيث لإقامة مدرسة فكرية او تأسيس لنظرية سياسية الا انه يستخدم نفس المناهج الأدبية في الحقل السياسي، وهو الأمر الطبيعي حيث ان الدين الأسلامي لا يمكن دراسته او فهمه او شرح اي افكار متعلقة به بدون التطرق للمناهج الأدبية في السرد والبحث والتحليل.
لا يهم فقط دراسة النظرية او محاولة التأسيس فقط، فدراسة المنهجية والقدرة على قراءة النصوص البشرية التي تسعى للتطوير – حتى وان كانت من وجهه نظر كاتبها وحده – فقد تميز اسلوبه بالوضوح، والسهولة للوصول لعقل المتلقي، بالابتعاد تماماً عن اصطلاحات الاصوليين في سعي جاد للوصول لاكبر قاعدة جماهيرية لأقامة ما اسماه الدولة الاسلامية.
فالخطاب الدعوي الذي تبناه يعتمد في اغلبه على مخاطبة وجدان الجمهور، وزرع الافكار في عقول التابعين من خلال تبسيط الأفكار التي يطرحها على الرغم من وجود العديد من التناقضات والثغرات وعدم الحصر الشامل لأبعاد القضية المطروحة.
سيد قطب (معالم في الطريق)
طلاقة الألفاظ والتعبير الضمني للمشاعر والأحداث كرواية يستطيع المتلقي مشاهدتها وليس فقط قراءتها كانت من اهم سمات ابداع سيد قطب الادبي، حتى وان كان خياله يحيله إلى اللا منطقية في افكاره في بعض الأحيان،
يمكن مشاهدة أدب سيد قطب في اعماله الموجودة والتي تنقسم إلى عدة محاور، المقالات، والنقد، الشعر، الدين، السياسة، حتى يمكن اعتباره احد ممثلي تيارات الدراسات المستقبلية داخل الجماعات المتصفة بالأسلامية.
وإن كان مفهوم الجاهلية لديه يعتبر مصطلح أساسي في أفكاره في "معالم في الطريق" الا انه كان يحاول تماهي المفهوم بداخل الثقافة بدلاً من تصريحه بتكفير المجتمع صراحة، وان كان ينطوي ذلك على براعة لغوية لمخاطبة العامة والتحايل على المثقفين الا ان الامر لم يتجاوز مثقفي تلك الفترة باي شكل من الأشكال.
الأمر الذي دفع المثقفين قبل السلطة لرفض الألتباس الذي صنعه قطب بل ونقدوه ايضاً، حتى وان اوعز بعضهم بان كتابه مجرد تنفيس لما عاناه من الظلم الواقع عليه، وهو الظلم الغير معروف مصدره ولكن بحسب قطب ان المجتمع والدولة قد تحالفوا عليه!
ولكن بتتبع المحور الأدبي في فكر سيد قطب من خلال اشعاره فقط سنجد انه يتمتع بمخيله رائعه، وقدره على توصيل الأفكار والمشاعر للمتلقي بسهولة وسلاسة لم تتسنى لمفكر محسوب على التيارات التي تدعي انها تيارات اسلامية، بل وتجاوزهم ايضاً، الامر الذي جعل جماعات الأسلام السياسي تسعى بكل قوتها لنسبه لهم، اي بأعتباره مفكر من داخل رحم الجماعة، على الرغم من تكوين ثقافته ونشأته من خارج الجماعة نفسها، وانما كان انضمامه للسعي لمكسب سياسي سلطوي يمكن إحالته على الجانب النفسي.
ولعل اهتمام المفكر حسن حنفي بأشعاره لم يكن من فراغ، فهو ان كان يشهد له بالكفاءة في الأدب والقصة والنقد الا انه يحيل فترة قطب الاخيرة كنتيجة لرفض الظلم الواقع عليه، والدعوة لعدم تناسي فترات حياة قطب بأعتباره اديب وشاعر قوي.
ومع ذلك اغفل – أو تغافل - حسن حنفي عن افكار سيد قطب في كتابه في ظلال القراءن، فقطب كتبه في مرحلة لم تكن من مراحل الظلم بحد وصف حسن حنفي، وايضاً اعتباره اديباً مفوهاً لا يعطيه القدرة على انتاج تفسير للقراءن الا من خلال ثقافته، والتي وان كانت موسوعية إلى حد ما الا انها تفتقر للدراسة الجيدة في علوم القراءن والتفسير كما يُدرس في الأزهر او المعاهد الدينية المعروفة، مما يحيلنا لمنهج قطب في التفسير، وارتباطه بالأفكار المذهبية المخالفة للمذاهب المعتمدة في الأزهر الشريف.
رفاعي سرور
رفاعي لم يسعى لنشر فكره سوى على نطاق ضيق، ونظراً لحظر اعماله وللمراجعات التي اهتمت بتحيلي تيارات الأسلام السياسي وايدولوجيات الجماعات الأسلامية فلم يتلق الزخم لذي تلقاه اقرانه، فقد اهتم رفاعي بالجانب السياسي كالمودوي، ولكنه اصبح نقطة انطلاق ومركزيه لأفكاره المدونة عامة.
فربما في رأيه انه اعتقد ان التأسيس السياسي هو الأهم قبل التأصيل الأيدولوجي للجمهور، وكأن التغيير الحقيقي يحدث من القمة وليس من القاع، ولكن مع ذلك تتميز ايدولوجيته بجانبان، احدهما سلبي والاخر ايجابي، فالسلبي هو اهتمامه بمنطق القوة بمعنى النتشوي، اي بفرض الأفكار من خلال السلطة، وايجاد اتباع بمجرد ايصال الأسلاميين للحكم، وهو امر يتعارض مع مفهومه للحرية والتي قيدها ايضاً بقيود تراثية اكثر منها دينية بحته، اما الجانب الإيجابي فهو ألأعتماد على مناهج البحث والتأصيل السياسي حتى وان افتقرت لابسط مباحث ونقاط واتجاهات العلوم السياسية والتي تدرس حالياً، فهو وان اعطاها الشكل السياسي الاسلامي من خلال النصوص الدينية الا انه اعطاها قدرة كبيرة على المرونة والمراوغه من خلال النصوص التاريخية والتراثية في التاريخ الاسلامي، وهو ما يمثل تناقض ايضاً لأتجاهه الفكري.
ابداع رفاعي يتمثل في مخاطبه العوام من خلال اللغة السهلة، والقدرة على قلب الحقائق في سبيل المصلحة العليا من وجهه نظره، وايضاً محاولة للسعي – ربما في رأيي – لتوحيد اتجاه الجماعات المختلفة تحت ظل اتجاه هو زعيمه فكرياً. بل وايضاً استخدام علوم اخرى في استكمال منهجه من خارج النص الذي يتمركز حوله، كعلم النفس وعلم الأجتماع والسياسة، وعلى الرغم من تحريم جماعات الأسلام السياسي للفلسفة الا انه يقتبس منها وكانه على اطلاع كاف لمفاهيم فلسفية في البحث عن الغاية من داخل الانسان نفسه.
فكره اشبه بمزيج تشكل وتلون بصبغة ذاتيه الهدف منها غاية وحيدة الا وهي تأسيس تيار سياسي أسلامي خالص!
السنوار (الشوك والقرنفل)
لسنا بصدد تأريخ لحياة السنوار بقدر رصد اهم الأفكار والمناهج الادبية التي اتبعها والتي تعتبر نقاط مركزية في الأفكار الجهادية والتي نحن بصدد قراءتها. الخطأ الذي يصطدم به اي متخصص بفن من الفنون هو عدم تتبع الصوره لكلية لفنه اولاً ثم الخوض في فنون اخرى كمحاولة لفهم الواقع بطريقة افقية، اذ ينبغي للأديب او المفكر والفليسوف الخوض في اعماق فنه لما له من خبرات مكتسبه تمكنه في استعراض الفنون الاخرى.
السنوار ليس أديب بالمعنى الكامل، فقد حاول فقط رؤية واقعه، وهي نظرة جزئية في حدود عالم الكاتب نفسه، حتى انه صاغها كيوميات أشبه بالسيرة الذاتية، مبتعداً تماماً عن ابداعات اللغة المتخصص فيها بحكم دراسته في روايتها، فيمكن اعتبار عمله هو اشبه بتأريخ شخصي. وربما مرحلة سجنه كانت الدافع الاكبر لتسجيل تلك السيرة كمحاولة للحفاظ على القوة العقلية له وايضاً بأعتبارها كمنفس لأفكاره الحبيسة، بل ويمكن ايضاً قراءتها من الناحية النفسية بأعتبارها مرحلة لترتيب الأفكار والاولويات وتفريغ الذاكرة في شيء مادي حتى يتسنى له تحديد الطريق الذي يريد السير على نهجه بطريقة جديدة.
"الشوك والقرنفل" تحتاج للعديد من السطور لتحليلها، بداية من العنوان حتى فهرس السيرة نفسها، ولكنها ليست العمل الوحيد، إذ قام بعملية ترجمة بعض الكتب والنصوص، وكلها تتمحور حول نفس الغاية، فلا ندري أهو انشغال بالواقع حثه للأهتمام بما هو واقع، ام تجاهل منه للعملية الأدبية والتاريخية والتي تمنح لقضية استمراريتها وحضورها على مر السنون!
لم يحظ كتابه بالاهتمام الكاف نظراً لكما سبق واوضحنا انه عمل خاص بصاحبه، لم يطرح فيه ايدولوجية واضحه لحل الازمة، ولم يضف جديد لأتجاهات الأسلام السياسي ايضاً.