الخطاب الإسرئيلي من ”شعب بلا أرض” حتى ”لا يوجد شيء اسمه فلسطين”
تغيير الخطاب السياسي تمهيداً لأجراءات الأحتلال بتصفية القضية عبر التهجير والإبادة
السياسة تهتم بالمفردات والتصريحات من صناع القرار لفهم استراتيجية القادة تجاه حادث معين، وفي القضية الفلسطينية الأمثلة الأهم كنماذج للفكر الغربي حول قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
الخطاب مجرد اداة تعرض أيدولوجيا صاحبها، ولفهم الأيدولوجيا وتطورها لابد من الاستعانة بالخطاب لتحليله وفهمه، وبالتالي فالأستعانة بالتاريخي كمصادر يعزز فهم تلك الأيدولوجيا، ولكنه لا يوضحها كاملة، فالموضوع اقرب لقراءة الواقع من خلال الخطاب وحده، وهو ما يستطيع فعله اي شخص متابع فقط للأحداث وتداعيتها وتفاصيلها بشكل جيد.
سأستعرض بعض نقاط وليس كلها، حيث الموضوع مرتبط بالتاريخي أكثر منه بالسياسي، ولكن تحولات الأيدولوجيا وظهورها من خلال الخطاب استدعت إلقاء الضوء على بعض الاحوال كأمثلة حية لا تخضع للتفنيد، بل وعززت حضور الأيدولوجيا في الخطاب الاسرائيلي وأوضحت المساعي الحقيقية لكيان جل اهتمامه تحقيق أطماع توسعيه على حساب بعض الأوطان.
اولاً مرحلة التأسيس
الخطاب السياسي الإسرائيلي مر بمراحل عديدة، اولهما مرحلة التأصيل الأيدولوجي لقيام الدولة، فكان ولابد من الأستعانة بالموروث الديني اليهودي رغم فداحة التدليس والمعلومات المدسوسة به للتأصيل للدولة ككيان سياسي، وكانت التعليلات سهلة المنال من النص الديني نفسه وشروحاته (المشنا والجمارا المعروفة بالتلمود)، والأستعانة بالقصص التوراتية كون الانبياء المبعوثين في بني يعقوب المكنى بأسرائيل ملوك، حيث كان يتسنى للقطب الديني لديهم السلطة السياسية، ولكن مع اختلاف نموذج السياسي وقتئذ مع نماذجنا السياسية المعاصرة.
ذلك التأسيس كان سابق لمحاولات هرتزل وتيودور نورداو وهيرتزل أنفسهم، ولكن تلك المحاولات كانت تفتقر للنسق المتكامل لنموذج الدولة بمؤسساتها وتفرعاتها المختلفة، وهكذا بدا التأصيل الأيدولوجي قبل قيام الدولة بالشكل الحالي.
ثانياً خطاب نشر الذعر
تحول الخطاب بعد ذلك لخطاب التخويف لليهود في الجالوت (المنفى) على حد زعمهم من القادة أنفسهم، مستعينين بتوابعهم في وسائل الاعلام وقتها، فتم تضخيم بعض الأحداث وتجاهل احداث اخرى في بدايات استخدام علم النفس في التوجيه الشعبوي تجاة معتقد وإجراء ما، ففي العصر الراهن وجدنا بعض الادلة على ان حادثة المحرقة اليهودية التي قام بها هتلر وحزبه النازي، بل وايضاً مفارقات عديدة بين اعداء الضحايات وشهدات بعض الناجين منهم، بل وازداد الامر غرابة بعد محاولة فهم لخطاب النازي من هتلر نفسه، وكأنه يتحدث في خطاباته عن مجموعة معينة تسيطر على منظمات ودول عديدة حول العالم وليس في المانيا وحدها!
هناك دراسات وكتب ووثائق تجعلنا على الاقل قادرين على الشك في الرواية الاوروبية واليهودية تجاه هتلر نفسه، فما الحال بتوجهاته السياسية والحربية!
ما لبث ان تحول الخطاب الإسرائيلي لخطاب توجيه للشعب اليهودي وأحقيته في وجود وطن قومي، مع وعود بأرض للزراعة – حيث لم يشتغل اليهود في المنفى بالزراعة ولكن بالتجارة فقط لأسباب دينية – ومنزل وسلطة مكونة من يهود ايضاُ. الخطاب كان أكثر من نوع، موجه للعامة من غير اليهود، وخطاب للخاصة الموعودين بوطن جديد بتأصيل ديني، وخطاب لخاصة الخاصة وهؤلاء هم الصف الثاني في الهيراريكية اليهودية ما لبثوا ان اصبح اغلبهم قادة ولكن في الظلال.
تميز فكرة تنويع الخطاب اتت ثمارها في تكوين صورة عن اليهود لغير اليهود بالمظلومية وأحقيتهم في النجاة والهرب من الحجيم النازي، أعتماداً على قابلية الشعوب العربية وبالأخص الفلسطيني في تقبل الوافدين مرعاه لمأساتهم وتأثرهم بالمشاعر الانسانية، وايضاُ عدم قدرتهم على الرفض نتيجة وقوف الدولة العثمانية وقتها موقف سلبي للهجرات اليهودية والتي اعتقد انها كانت معروفة اهدافهم لديها!
خطاب الخواص او خاصة الخاصة المطلعين على فكرة تكوين الدولة كان اشبه بتوجيه، اي خطاب لدفعهم للعمل على الاعتراف الدولي من خلال التأثير في صناع القرار حول العالم للأعتراف بالدولة ككيان سياسي في الأساس، اي بالأبتعاد عن الجانب الديني، مع المرونة مع بعض الدول في كون الدولة اليهودية التي ستقام ستحتضن كافة الاديان، ولكن لم يكن ذلك الخطاب لكل الدول، بل للدول التي ترتاب في الامر فقط. اما عن خطاب الخواص لأوروبا كان من قبيل محاولة التاسيس من خلال وجود حليف لاوروبا في الشرق الاوسط، والذي لا يمكن الاستغناء عنه تحت اي مسمى، لذا فالدولة الاسرائيلية ستكون بمثابة البوابة وصمام الامان لاوروبا في الشرق الاوسط.
هذا الخطاب ما يلبث ان يتلون كل فترة، ولا يتسم بخطاب ثابت مستديم، لذا فأي اتفاق مع السياسي الإسرائيلي هو عرضه للألغاء في اي وقت، تحت اي زعم، كسوء التفسير او المعنى الفضفاض وحتى لتغير الوقت والحكومات!
ثالثاً الخطاب السياسي قبل 73
كانت حرب 73 نقطة محورية فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط، استطاعت فيها إسرائيل ككيان حديث الولادة من حمل سفاح ان تجترع الهزيمة، وتعرف وقتها ان مصر كشعب ودولة لا يقبل التنازل عن حقه مطلقاً حتى وان ساءت الظروف.
تلك المقدمة لها اهمية في بيان الخطاب السياسي قبل 73 وبعده، الخطاب السياسي امتاز بالغرور والتكبر، امتاز بالنظرة الأستعلائية نظير مساندة الغرب وبالأخص الولايات المتحدة الامريكية لأسرائيل، الخطاب الإسرائيلي (السياسي) في الداخل والخارج أضرهم اكثر ما نفعهم، ترديدهم لكذبة اختلقوها جعل الكثيرين منهم مصدق لتلك الفكرة، ومرة أخرى أهملوا الجانب النفسي للشعوب العربية، فالعرب عامة والمصريين خاصة لا ينفع معهم لغة الترهيب او الاستعلاء، فالمصري ذو كرامة، ولا يقبل علاقة العبد بسيده مطلقاً، ولعل لنا في التاريخ العديد من الأمثلة، والتي هي ايضاُ محل لتجارب خطابات تحاول نزع الأصل عنه، من الناحية العربية او الاسلامية حتى الفرعونية نفسها!
الأمثلة عديدة عن لغة الخطاب السياسي الإسرائيلي قبل 73، والمتمثلة في جولدامائير وموشى ديان وغيرهم، فالمتتبع للخطابات السياسية وقتها سيجد محاولة لفرض اليأس على الشعب المصري والتشكيك في اي إجراء يتم اتخاذه في الداخل عن طريق الإشاعات بل وأحياناً الأستعانة بالسخرية والفكاهه. للأسف تلك الأساليب حتى وان كانت علمية الا انها لا تنطبق على الشعب المصري، فالشعب المصري لا يمكن تحديده كفئة يمكن دراستها سيكولوجياً، فتنوع الشعب المصري في ثقافاته واعتزازه وفهمه لمسارات التاريخ يستطيع فهم المؤامرات، ليس على النطاق السياسي فحسب، بل على النطاق الشعبي ايضاً.
والدليل على ذلك ان في اثناء حرب اكتوبر لم تسجل أقسام الشرطة في مصر حالة بلاغ واحدة، لا مدنية ولا غيرها، كان الأهتمام منصب على النصر، وتضافر طبقات الشعب المصري على مساعدة جيشه بكل ما يستطيع، مادياً ونفسياً وادبياً وفنياً وسياسياً... الخ، ولعل هذا من اهم اسباب الخوف الإسرائيلي من مصر.
رابعاً الخطاب السياسي بعد 73
الأنكسار في خطابات القادة الإسرائيليين بعد الهزيمة وتداول مشاهد للأسرى الأسرائيليين من الجنود والقادة كان كفيل بكسر فكرة الجيش الذي لا يقهر، بل وتحول الخطاب من خطاب استعماري استكباري إلى خطاب حول السلام ومحاولة تحقيق اي مكتسبات من الهزيمة، ولعل فيلم جولدا الاخير الذي اثار اللغط هو محاولة يائسة لصناعة رمز سياسي اسرائيلي على خلاف الواقع.
الملاحظ ان الخطاب السياسي الإسرائيلي كان في أدنى حالاته وقتها، كنتيجة لفقدان الشعب اليهودي الثقة في قياداته، مما استلزم إجراء تغييرات فيما بعد. ونرى ان تلك المرحلة التي اتسمت بمحاولات فرض خطاب السلام قد شملت بعض الدول في الشرق الأوسط، كمحاولة سياسية لتحقيق مكتسبات عن طريق ترسيم حدود تمكن الدولة الإسرائيلية من محاولة رأب الصدع الداخلي وترتيب الأوراق الخارجية من جديد، لذا نلاحظ ان الخطاب الخارجي السلامي بحد زعمهم كان يسعى لفرض حالة من عدم القتال، واللجوء للمفاوضات لتحقيق اي نصر معنوي بأقل قدر من القوة العسكرية والتي تأكدوا انهم لن يستطيعوا ان يقيموا بها دولة.
بمراجعة خريطة فلسطين المحتلة سنجد ان الحدود التي حول الكيان تخضع كلها للنزاع، بل لأعادة الترسيم كنتيجة عدم وجود اتفاقات او معاهدات تتضمن ترسيم الحدود مع تلك الدول بأستثناء دولتان، كانت مصر قادرة على تحقيق النصر واسترداد الارض بل سعت ايضاً لتقرير حق فلسطين ولكن لم يسعف الوقت السادات رحمه الله، وتم التوافق في الحدود من خلال اتفاقية مع الاردن، اما ما عداهم فلم يتم نتيجة لوجود صراعات داخلية بتلك الدول او لتغيير الحكومات او لرفض بعضهم الأعتراف بشكل رسمي ولكننا لا نعرف ما يجري خلف الستار بشكل واضح.
خامساً الخطاب السياسي وتحولاته حول قضية فلسطين
الخطاب كان في البداية عبارة عن "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وهو ما تم ضحده على كافة المستويات، ولكن تم استخدام هذا الخطاب في أوروبا نظير جهل الأغلبية بوجود شعب يسكن تلك الارض منذ ألوف السنين، وكان الخطاب في 48 للعرب في فلسطين هو "جئنا إليكم نستغيث فلا تردونا" كنتيجة للهولوكوست النازي ومحارق هتلر، ثم بعد ذلك القبول بالأعتراف بدولة فلسطين على حدود 67 وقرار الأمم المتحدة، ثم اجتياح الضفة وغزة وإحتلال شبه جزيرة سيناء، حتى الهزيمة وعودتهم لحدود 67، ثم التحايل على الواقع من خلال سرقة واقتطاع بعض الأراضي لأقامة مستوطنات ومحو كل ما يشير لهوية أصحاب الأرض بما فيها من البشر أنفسهم، حتى تبقى قطاع غزة والضفة بالشكل الحالي.
نجد الان تغيير الخطاب السياسي لعدم الأعتراف بالدولة الفلسطينية والأقرار بضم الضفة وغزة في تحد واضح وصريح لقرارات المجتمع الدولي والمنظمات العالمية المعنية بذلك الصدد كنتيجة لوقوف امريكا ودول الاتحاد الاوروبي في صف إسرائيل، كيف لا، واسرائيل تضمن ولاء الغرب من خلال الأقتصاد والقدرة على السيطرة في صناعة القرار من خلال صناع القرار انفسهم من خلال منظمة الإيباك!
والمتتبع لتحولات الخطاب سيجد نتيجة مهمة مهما تغيرت الوقائع، هي ان المواجهه حتمية، ستأتي قريبأ او بعد ردح من الزمن ولكنها اتيه لا محاله، والتغيير الجغرافي أكيد من خلال تحليل الخطاب وحده، لو استعننا بأدوات أخرى سيتسنى لنا معرفة الوقت الدقيق لتنفيذ المخطط الصهيوني في الوطن القومي لليهود، ولكنه ليس بذات اهتمامنا الان هنا.
ان اسرائيل لم تدرك خطأها ومازالت تكرره، بل تحاول تنفيذ استراتيجية جديدة من قبلها ولكنها قديمة وعاصرناها من قبل، وهو التصريح بمخططاتهم لبيان مدى الغضب العالمي وقدرته على احداث اي تغيير لا يقع في مصلحتها حتى يتسنى لهم النظر للامور برؤية افضل لأتخاذ قرارات مناسبة، وايضاً كمحاولة للتمهيد لما سيكون عليه الامر حتى لا يقول احد ان اسرائيل قامت فجأة بتغيير وضعيتها في الشرق الأوسط بل جاء الإجراء بعد سلسلة مداولات طويلة كان العالم كله على علم بها.
استراتيجية عقيمة تنم عن سوء نظر واستعجال لزوال دولة الكيان ولكنهم لم يدركوا هذا بعد..
تحول الخطاب من مجرد السكوت قبل عملية 7 اكتوبر والمسماه بـ "طوفان الأقصى" من محاولة ارهاص القضية من خلال تداعيها من الداخل، اي بخلافات بين السلطة الفلسطينية "فتح" وحركة المقاومة الاسلامية "حماس" والنزاع على السلطة، او من الخارج؛ عن طريق نسيان القضية ونسيان شعب يعاني ومحبوس في أكبر سجن بشري عرفه العالم.
لنجد تحولات الخطاب قد آلت من السكوت المطبق إلى الأعتراف بأن الفلسطينين "وحوش" و "حيوانات بشرية" وايضاً "ليس من بينهم بريء حتى الاطفال والسيدات والشيوخ"، وكنتيجة لذلك الخطاب استمرت لاكثر من عام اكبر مجزرة بشرية في التاريخ الحديث على مرأى ومسمع العالم بأكمله، في ظل تعتيم من الميديا العالمية وتحولات الخطابات الأعلامية لتمجيد القتلة وتهميش الضحايا، كل هذا نتيجة للخطاب! ومازالت القصة مستمرة لا نعلم إلى متى..
سادساً تأملات خطابية
يظن البعض بأن اليهود – الصهاينة – عقلية نابغة، قادرة على أحداث تغيير في العالم كله، ولكن للأسف الدارس والمتخصص سيعرف ان اسرائيل فقاعة، لم نحسن التعامل معها بالشكل الأمثل، فالتعامل مع الأيدولوجيا يكون من خلال الأيدولوجيا نفسها، اما بنقدها او بتفكيكها، وتوجيه خطاب من داخل الأيدولوجيا الصهيونية نفسها، فأذا لم نستطع ان نقيم مراكز متخصصة قادرة على فهم تلك الخطابات ودراستها وفهمها لن يتسنى لنا فهم الخطاب المعاد اي ان كان مصدره، فلابد لخطابنا ان يصل لأيدولوجيتهم ذلك كفيل بحل مشكلة قامت في الأساس على ايدولوجية مزيفة