أسامة شرشر يكتب: من يحاسب الحكومة على هجرة الأطباء؟

استفزتنى تصريحات رئيس الوزراء فى ردوده حول هجرة الأطباء الذين يمثلون العمود الفقرى للصحة وللمرضى المصريين وأن هجرتهم إلى الخارج لا تعنيه طالما أن هناك عائدًا من العملة الصعبة والدولارات سيعود على البلاد وليس العباد.
وكأن أطباء مصر المتميزين النابهين الواعدين الذين يبذلون جهدهم ويترجمون طبهم وعلمهم فى شفاء المرضى والغلابة فى كل مستشفيات مصر لا يستحقون حل مشاكلهم والاستماع إلى شكواهم وآرائهم بل زيادة أجورهم بصورة كبيرة ومناسبة لعملهم، فهم جنود يعملون على خط النار فى مواجهة المرض اللعين الذى يصيب جسد الإنسان المصرى ويبدعون ويفعلون المستحيل، وبدلًا من احتوائهم والاستماع إليهم نجد محاولة تطفيشهم وعدم الاهتمام بهم، فالهجرة إلى الخارج بالنسبة للأطباء هى نوع من الهروب من الإعدام الاجتماعى والإنسانى لقلة الحلول لدى الحكومة.
وبدلًا من أن تكون الحكومة حاضنة لهم وفخورة بهم نجدها طاردة بكل معانى كلمة طرد لهم، وهو ما قاله لى أحد الأطباء المهاجرين إلى لندن، وكأن هؤلاء الأطباء الأبطال الذين ضربوا أروع الأمثلة الطبية فى معركة كورونا الصحية ومات منهم أطباء وممرضون وعمال وإداريون، لا يستحقون التكريم أو الثناء أو حتى الاستماع إليهم.
فملف الصحة فى مصر يحتاج إلى وقفة حقيقية نتيجة هجرة أطبائنا الأكفاء والمتميزين بعد أن فشلت نقابة الأطباء فى إيجاد صيغة توافقية مع الحكومة لإعادة انتشالهم من مستنقع الفقر بمعنى الكلمة، فالرواتب متدنية إلى أقصى درجات التدنى، والخدمات الطبية فى المرحلة الأخيرة تتحدث عن نفسها، ولو كان هناك استبيان حقيقى ولجان استماع فى البرلمان المصرى، لاستمعوا إلى آلاف وربما ملايين الشكاوى من المرضى والأطباء الذين يعملون فى ظروف صعبة من ناحية الأجهزة الطبية وعدم توفر الإمكانيات والرواتب الهزيلة.
ولكن ما لفت نظرى ما قاله مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، بأن هجرة 9 آلاف طبيب إلى الخارج لن تؤثر على المنظومة الصحية فى مصر؛ لأن لدينا 30 ألف طبيب يتخرجون فى كليات الطب الحكومية والخاصة، وعند الخاصة أتوقف كثيرًا فبعضهم أو معظمهم غير مؤهل من الناحية العلمية والبحثية والتدريبية مثل زملائهم فى كليات الطب الحكومية، خصوصًا من ناحية التدريب على الحالات وعلاجها.
والحقيقة التى أغفلها الدكتور مصطفى مدبولى أن هناك ما يقرب من 80 ألف طبيب مصرى كفء يعملون بالخارج منتشرون فى دول الخليج وأوروبا وأمريكا بل فى الدول الإفريقية أيضًا، بحثًا عن حياة كريمة لأولادهم، وأجر محترم، وبعضهم يبحث عن المشاركة فى البحوث العلمية الطبية بالخارج أملًا فى مسقبل أكاديمى محترم.
ويتناسى الدكتور مصطفى مدبولى أيضًا التقارير الدولية التى تقول إن الحد الأدنى للأطباء فى أى دولة يجب ألا يقل عن 10 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، بينما فى مصر هناك 7 أطباء لكل 10 آلاف مواطن وهى نسبة تقل بـ30% عن الحد الأدنى العالمى.
هناك حالة من الفوضى الطبية تعم مستشفيات مصر فى المحافظات والمستشفيات الحكومية وحالة من الغضب والرفض لدى المرضى من دفع رسوم الأشعة والمستلزمات الطبية للعمليات وهى الأمور التى كانت بالمجان قبل ذلك، فكان المريض المصرى يشعر بالأمان الطبى لدى المستشفيات، وأقولها بكل وضوح نتيجة شكاوى وآهات المرضى والمواطنين المصريين إن لغة الخراب الطبى هى السائدة وعدم الانتماء للدولة المصرية وهذا الشعب العظيم أصبح هو القاعدة وليس الاستثناء بعد أن قام الإعلام الحكومى المبرمج- المرفوض لدى المواطن المصرى لأنه لا يقول الحقيقة ولا يتعامل بحيادية أو مهنية- بالترويج بأن يدفع الأطباء تكلفة تعليمهم فى كليات الطب وهذا منطق غريب جدًّا، فبدلًا من عمل استبيانات وقراءات للمشهد الصحى فى مصر نجد أن الحكومة والإعلام الموالى لها يقومان بحالة قصف متعمد لهؤلاء الأطباء الشباب الواعدين.
فلا يوجد تنسيق على الإطلاق بين نقابة الأطباء المصرية وهى بوابة الأطباء فى مصر والحكومة، وكأن هناك ثأرًا شخصيًا بين الطرفين ينعكس مباشرة على المرضى المصريين من صعيد مصر إلى الوجه البحرى وفى كافة المحافظات.
والشىء الغريب والمثير فى أزمة عدم الثقة بين الأطباء والحكومة هو أننا لم نستمع إلى رأى الدكتور خالد عبدالغفار، وزير الصحة، والقائمين معه على إدارة الملف الصحى فى مصر، فاحترام التخصص فى هذا التوقيت عنصر هام وحساس، خصوصًا إذا أدلى بالبيانات والحقائق الوزير المختص وليس رئيس الوزراء الذى ليس لديه خلفية طبية عما يجرى فى كواليس القطاع الصحى.
هذه صرخة من الأطباء الشبان إلى رئيس الجمهورية أن يعاد تقييم وضعهم المادى والتدريبى والتعليمى وأن يحصلوا على الحد الأقصى للأجور أكثر من الوزراء أنفسهم لأنهم يقدمون خدمة نبيلة للمجتمع والمرضى بينما الوزراء يقدمون النكد والغضب للمواطنين.. فشتان بين هذا وذاك!.
إذا أردنا أن نصلح المنظومة الصحية فى مصر فيجب أن تكون هناك لجان استماع للأطباء أولًا ثم إلى النقابات والمتخصصين فى هذا الشأن ثم إلى البرلمان إذا كان هناك نواب يدافعون عن هذا الشعب العظيم.
وأنا أقترح على الحكومة بأن مكاتب هيئات الاستعلامات فى المحافظات هى التى تنقل الصورة الحقيقية للمسئولين، وهذه المكاتب كانت مفعلة أيام رئيس الوزراء المحترم المهندس إبراهيم محلب، وكانت تحظى بردود فعل إيجابية بعد أن يقوم متخذ القرار باتخاذ القرار بناء على معلومات حقيقية لما يجرى فى الشارع وكل الأماكن الحكومية.
فلماذا لا نعيد تفعيل مكاتب هيئة الاستعلامات وبها من الكفاءات الحقيقية ما يحقق الهدف لأن القرار عندما يكون مبنيًا على معلومة فهو قرار إيجابى وليس عشوائيًا، بدلًا من حالة الفوضى فى المنظومة الصحية، مرة ببيع المستشفيات للقطاع الخاص، ومرة بقانون المسئولية الطبية، وأخرى بارتفاع أسعار الدواء المتتالى الذى ليس له ضوابط، حتى أصبح المواطن منتهى الصلاحية بعدم قدرته على شراء الدواء، وأخيرًا بتطفيش الأطباء وهجرتهم بدعوى جذب الدولارات.
وأتساءل ويتساءل معى المخلصون فى هذا الوطن: إلى متى تتوقف حالة الرجوع والتردى فى الملف الصحى فى مصر المحروسة؟!
أعتقد أن حالة عدم الثقة بين فئات الشعب، وخاصة الأطباء، والحكومة وصلت إلى طريق مسدود، فإما أن تقيلوا الشعب أو تقيلوا الحكومة التى تتفنن فى التنكيل بالناس.
وشكر الله سعيكم.