د. مدحت حماد يكتب: سؤال منطقى وبسيط هو.. ماذا لو نجحت المقاومة الفلسطينية فى تحرير القدس بدعم من إيران؟
منذ تمكن الصهاينة، وبدعم القوى الاستعمارية، من فرض التقسيم ثم احتلال فلسطين، وما نتج عن ذلك من احتلال إسرائيل للمقدسات الإسلامية والمسيحية، ثم السفور الأمريكى الفج أثناء رئاسة ترامب، الذى تجسّد فى الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل، طبعًا هذا بخلاف اعترافها السافر أيضًا بضم إسرائيل للجولان، وبالرغم من وقوع أكثر من خمسة حروب كبرى وصغرى بين نظام الاحتلال الإسرائيلى والعرب والفلسطينيين، إلا أن ما بات قائمًا كأمر واقع، فى معادلات الصراع مع إسرائيل منذ عام ٢٠٠٦، يشير إلى تحول جذرى فى بوصلة الصراع الإقليمى، الذى هو صراع وجود، مع نظام الاحتلال الإسرائيلى.
هذا التحول الجذرى يمكن رصده ومن ثم تجسيده على محورين متوازيين، لكنهما يسيران عكس اتجاه بعضهما البعض. هذان المحوران المتوازيان فى اتجاه معكوس، هما كالتالى:
المحور الأول..
التمدد الإيرانى المركب فى شرق المتوسط.
يمكن رسم طبيعة وتداعيات، ومن ثم دوائر وأهداف، وكذلك تداعيات ونتائج هذا التمدد، فى الوقائع التالية..
١- تمكن حزب الله من فرض توازن الردع مع الاحتلال الإسرائيلى، وبقوة السلاح، بدعم مباشر شامل، كلى ودائم، من إيران، ومن ثم امتناع إسرائيل عن مجرد التحرّش العسكرى بحزب الله من جهة، ومجرد التفكير فى الاعتداء العسكرى على لبنان من جهة أخرى.
٢- تمكن فصائل المقاومة الفلسطينية على اختلافها من امتلاك قدرات تسليح عسكرية ذاتية، لم تكن بحوزة الفلسطينيين منذ اندلاع الصراع، أيضًا بدعم من إيران، وهو الأمر الذى أعلنته رسميًا المقاومة الفلسطينية بعد عملية سيف القدس، فى العام الماضى.
٣- تأسيس نظام حكم عراقى، ليس فقط غير معاد لإيران، بل إنما هو شريك استراتيجى لها، ومتوافق مذهبيًا وعقائديًا معها، طبعًا بخلاف تشكيل قوات عسكرية مسلحة، موازية للقوات المسلحة للدولة العراقية، أعنى بذلك تشكيل قوات الحشد الشعبى برعاية المرشد على خامنئى وبإشراف مباشر من الحرس الثورى الإيرانى، وبتخطيط وتحت قيادة قاسم سليمانى.
٤- تأمين الوجود الإيرانى الدائم فى شرق المتوسط، من خلال وجودها الاستراتيجى غير المسبوق فى سوريا، والذى فاق فى طبيعته ومستواه نوعيته وبمراحل كثيرة، الوجود المصرى هناك إبان وحدة مصر وسوريا فى فترة الرئيس عبد الناصر.
٥- إنشاء كيان سياسى يؤمن بالجمهورية الإسلامية الإيرانية فى اليمن، وهو "الحوثييون" بكل ما بات يرتبط به من معادلات ومتغيرات ومستجدات على مستوى المشرق الإسلامى برمته بصفة عامة والمشرق العربى الخليجى بصفة خاصة، وهو الكيان الذى بات يشكّل بالفعل رقمًا فعليًا وصعبًا ونافذًا فى المستقبل السياسى لليمن.
المحور الثاني:
الانكفاء على الذات، والتحول الدراماتيكى فى خريطة العلاقات العربية الإسرائيلية!!
يتعلق هذا المحور بالواقع الذى باتت تشهده دول المشرق العربى، التى كانت فى معظمها، دول المواجهة العسكرية مع إسرائيل، أو دول منخرطة فى الصراع العربى الإسرائيلى، وهو ما يمكن توصيف مكوناته كما يلى:
١- التطبيع النوعى الخليجى مع إسرائيل، سياسيًا واقتصاديًا، ثقافيًا ودينيًا، أمنيًا وعسكريًا، وهو التطبيع غير المسبوق فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، من جهة، والذى أخرج جميع الدول المُطبّعة فعليًا من دائرة الصراع من جهة أخرى وبالتالى استحالة انخراطها أو مشاركتها، أو حتى تأييدها لأية حرب قادمة ضد إسرائيل، طالما بقيت نظم الحكم التى قامت بالتطبيع من جهة ثالثة.
٢- الاحتواء الإسرائيلى للدور العسكرى المصرى والأردنى فيما يخص الصراع العسكرى من خلال اتفاقيات السلام الموقعة بين إسرائيل وبين مصر والأردن.
٣- انكفاء العديد من دول المشرق العربى على همومها ومشكلاتها وأزماتها، بل انخراط بعضها مثل السعودية فى حروب عسكرية إقليمية عربية عربية، ألحقت بقدراتها الشاملة من الأضرار والخسائر، ما قد تحتاج إلى عقدين على الأقل لتعويضها.
٤- تراجع حدة الخطاب السياسى العربى الجماعى ضد إسرائيل، لأول مرة منذ وجودها ككيان محتل للأراضى والمقدسات الإسلامية والعربية، لدرجة أنه يمكن القول بأن الأجيال العربية الأخيرة قد باتت بعيدة كل البُعد عما كنّا نعيشه قبل عقدين تقريبًا، بل إن هناك مؤشرات ثقافية أخذت فى النمو مفادها تغيير القناعات المعرفية والثقافية تجاه قضايا الصراع العربى الإسرائيلى، ولربما شهدنا فى المستقبل القريب جدًا أن مقررات التعليم فى المدارس العربية قد خلت تمامًا ليس فقط، من كل ما هو ضد إسرائيل، بل أيضًا قد تحمل دروسًا ونصائح بأن إسرائيل هى دولة صديقة وحبيبة وأنها غير محتلة للمقدسات الإسلامية والأراضى العربية، إلى غير ذلك.
٥- تغيير البوصلة الخاصة بالعدو الاستراتيجى للدول العربية، لتكون إيران وليست إسرائيل!! فى تحول جذرى خطير للقناعات الكامنة داخل الوعى العربى، وهو ما أثبتته ورسخته اتفاقيات التعاون العسكرى الأمنى الاقتصادى الثقافى ومن ثم السياسى والدينى، بين الإمارات والبحرين، وكذلك المغرب، من جهة، وبين إسرائيل من جهة أخرى.
الحقيقة أننا أصبحنا بصدد اصطفاف إقليمى عربى جديد نوعى غير مسبوق، بل لم يكن ممكنًا أن يخطر على قلب رجل عربى مطلقًا، على صعيد "الصراع" مع إسرائيل، وهو الصراع الذى باتت تجسده بكل وضوح جبهتان أو محوران إقليميان هما:
"محور المقاومة" والممانعة للكيان الصهيونى الغاصب ومحور الاعتراف والتعاون والتطبيع مع إسرائيل.
هذا الاصطفاف الإقليمى العربى الجديد يكشف بدوره عن أنماط وأشكال جديدة من التعاون أو الصراع فى المشرق العربى وشرق المتوسط، سعيًا لتحقيق أحد أمرين لا ثالث لهما:
1) أن تنتصر تطلعات محور التعاون والتطبيع، من خلال تحقيق الوعود الخاصة بالرفاهية الاقتصادية والمعيشية داخل مجتمعات هذه الدول من جهة.
٢- وأن تنتصر إرادة وعزيمة محور الممانعة والمقاومة، فى الصراع الوجودى مع إسرائيل من جهة أخرى.
فإذا ما تحقق الأمر الأول، نكون بصدد تغيير جذرى عميق فى الهوية الوطنية للدول العربية، أما إذا كانت الثانية وتحققت إرادة وعزيمة محور الممانعة والمقاومة، فإننا سنكون قد دخلنا فعليًا فى تحول استراتيجى نوعى فى المشرق العربى غير مسبوق، خصوصًا فى حال تمكن روسيا فعليًا من فرض إرادتها فى غرب آسيا وشرق أوروبا بصفة عامة وفى أوكرانيا وشرق المتوسط بصفة خاصة، على رأس هذا التحول، يكون انتصار المقاومة الفلسطينية على إسرائيل انتصارًا نوعيًا غير متوقع، على طريقة بونابرت فى الشطرنج، وهو الانتصار الذى سيكون مشمولًا بدعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية بكل تأكيد، ليكون السؤال المركّب هو: كيف ستبدو خريطة التوازن الإقليمى فى حال تحقق ذلك، وكيف ستكون مواقفنا إن تحقق هذا الانتصار للمقاومة الفلسطينية، وإلى أى جانب سنقف، هل سنقف إلى جانب السلطة الفلسطينية ومن ثم إلى جانب بقاء إسرائيل، أم سنقف إلى جانب المقاومة وتحرير القدس وبالتالى سنكون فى نفس الخندق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ هذا ما سنناقشه فى الأسبوع القادم إن شاء الله.