دار الإفتاء توضح حكم عدم توثيق عقد الزواج للحصول على المعاش
تلجأ بعض السيدات الأرامل إلى التحايل على القانون والزواج عرفيا للاستفادة واستمرار الحصول على معاش أزواجهن الراحلين، حيث نجحت مباحث الأموال العامة من خلال حملاتها الأمنية فى ضبط عدد كبير من قضايا الاختلاس والاستيلاء على المال العام، من خلال قيام الأرملة بالزواج العرفى للحفاظ على معاش زوجها السابق المتوفى دون وجه حق.
وحصلنا على نص فتوى رسمية من دار الإفتاء المصرية حملت توقيع الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، وجاء نص السؤال كالآتى:
اطلعنا على الطلب المقدم و المقيد برقم 465 لسنة 2017م المتضمن:
ما حكم عدم توثيق الزواج عند المأذون من أجل الاحتفاظ بالمعاش أو الحضانة؟ حيث إنني كنت متزوجةً، ومات الزوج، وعندي منه ولد، وأريد أن أتزوج لأعفَّ نفسي وأحفظها من الحرام، إلا أنني أخشى مما يترتب على توثيق الزواج من إسقاطِ المعاش والحضانة، وأنا في حاجة إلى هذا المعاش، وأخشى أن تضيع مني حضانة الولد.
الجـــــــــــــــــــــــــــوا ب:
نهى الشرعُ الشريفُ عن الكذب وحرَّمَه؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا». قال العلامة الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (16/160، 161، ط. دار إحياء التراث العربي): "قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فعرف به وكتبه الله لمبالغته صديقًا إن اعتاده، أو كذابًا إن اعتاده، ومعنى يكتب هنا يُحْكَمُ له بذلك ويَسْتَحِقُّ الوصفَ بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يُلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، كما يوضع له القبول والبغضاء، وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق قد سبق بكل ذلك، والله أعلم".
وتشترط الدولة في صرف المعاش للمرأة أن تكون غير متزوجة؛ وذلك بموجب قانون المعاش في المادة رقم 554 لسنة 2007م والتي يتلخص نصُّها في: عدم أحقية الرجل أو المرأة المتوفى عنهم زوجهم في استحقاق المعاش في حالة زواج الرجل بامرأة أخرى، وزواج المرأة برجل آخر.
فإذا كانت العلة في عدم توثيق الزواج هي المحافظة على استمرار المعاش والحضانة وعدم انقطاعهما، فإن هذا الفعل يكون من باب أكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه عن غير استحقاق، ويكون من باب الكذب والتحايل والتدليس كذلك، إلى جانب أنه تضييع للحقوق بعدم توثيق الزواج، وربما تسببتِ في منع وصول هذا المال لمستحق آخر هو في أمس الحاجة إليه.
أما عن الخوف من سقوط الحضانة بمجرد الزواج من أجنبي عن المحضون، فالذي عليه المحققون من الحنفية: أن زواج الحاضنة بغير ذي رحم للمحضون لا يُسقط بمجرده حضانتها عنه حتى يثبت للقاضي أن زواجها يضرُّ بمصلحة المحضون؛ لأن مدار الحضانة على نفع الولد، وكل ذلك مع رعاية عدم وجود ما يعكر على رعاية المحضون أو يعرض بدنه أو عقله للخطر، أو يشوش عليه ما يجب أن يتربى عليه من دين قويم وعادات سليمة. قال ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار المعروف بـ (حاشية ابن عابدين)" (3/ 565، ط. دار الفكر): "فينبغي للمفتي أن يكون ذا بصيرة ليراعيَ الأصلحَ للولد، فإنه قد يكون له قريب مبغض له يتمنى موته، ويكون زوجُ أُمه مشفقًا عليه يعزُّ عليه فراقه، فيريد قريبه أخذه منها ليؤذيه ويؤذيها، أو ليأكل من نفقته أو نحو ذلك، وقد يكون له زوجة تؤذيه أضعاف ما يؤذيه زوج أمه الأجنبي، وقد يكون له أولاد يخشى على البنت منهم الفتنة لسكناها معهم، فإذا علم المفتي أو القاضي شيئًا من ذلك لا يحلُّ له نزْعُه من أُمه؛ لأن مدارَ أمرِ الحضانةِ على نفْع الولد، وقد مرَّ عن البدائع: لو كانت الإخوة والأعمام غير مأمونين على نفسها أو مالها لا تسلم إليهم".
أما عن صحَّة عقد الزواج غير الموثق، فمِنْ حكمة الله تعالى أنه ما حرَّم الزنا إلا وقد سهَّل أمرَ الزواج، وجعل في الحلال غُنْيَةً عن الحرام، والزواج في الإسلام عقدٌ قوليٌّ بين رجل وامرأة خاليَيْنِ من الموانعِ الشرعية، فشأنه كشأن سائر العقود التي تصحُّ بتوفر شروطها وأركانها وانتفاء موانعها.
فإذا تمَّ عقد الزواج مستكملًا لأركانه من الصيغةِ -أي الإيجاب والقبول- والعاقدين، والشاهدين، وولي للمرأة عند جمهور الفقهاء خلافًا للإمام أبي حنيفة -وهو ما عليه الفتوى والقضاء- الذي لا يرى أن الولي ركن من أركان عقد النكاح، إلا أنه يَشترطُ رشاد المرأة وكفاءة الزوج وثبوت مهر المثل على الأقل، فالعبرة إنما هي بحصول العقد الصحيح الذي استكمل أركانه وشروطه من كمال الأهلية في التصرف ونحوه مع انتفاء موانعه -فإنه عقدٌ صحيحٌ من جهة الإنشاء، يستتبع آثاره وما يترتب عليه من أحكام.
ثم يأتي التوثيق بعد ذلك لحفظ الحقوق، فتوثيق عقود الزواج -أي تسجيلها لدى الموظف الرسمي للدولة واستخراج وثيقة بها تكون مع الزوجين- إنما هو من المستجدات التي دعت الحاجة إليها لأسباب عدة كان من أهمها: حفظ الحقوق، ومنع وقوع التناكُر في عقد الزواج، وحصر الأشخاص المستحقين للحقوق والخدمات التي تقدمها الدولة ...إلى آخره.
وعليه فعدم توثيق عقد الزواج لا يقدح في صحة العقد ما دام مستوفيًا لأركانه وشروطه، فالزواج عقدٌ من جملة العقود الشرعية، وقد تولَّت الشريعة تحديد أركانه وشروطه، وليس من شأن البحث الفقهي أن يُنتجَ شروطًا زائدة على الشروط التي حددها الشرع، والإقدامُ على تحويل هذا الأمر الإجرائي إلى شرطٍ يقدح في الماهية والصحة تصرفٌ لا تساعد عليه الصناعة الفقهية والأصولية، ويؤكد هذا ما رواه الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ».
كما أن جعل التوثيق والكتابة الرسمية شرطًا لصحة عقد النكاح قد يُسقط ركنيةَ الصيغة؛ فإنه يجعل نفاذها مرهونًا بالتوثيق، وقد يؤدي ذلك إلى اعتماد العقد بدونها إذا كان موثقًا، وهذا مخالف لأصالة الصيغة في العقود؛ فإن العقود إنما اعتبرت فيها الألفاظ لدلالة الصيغة مباشرة على الإرادة والرضا، ولذلك كانت هي الأصل في الانعقاد، بخلاف الكتابة والإشارة فإن دلالتهما غير صريحة؛ لِمَا يعتريهما من العوارضِ والاحتمالات.
وقد نَصَّ الفقهاء على أن عقد النكاح لا ينعقد بالكتابة ولا يُستَغنَى بها عن اللفظ إذا كان العاقد قادرًا على التلفظ. قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (3/ 90، ط. دار الكتاب الإسلامي): "وقيد المصنف انعقاده باللفظ لأنه لا ينعقد بالكتابة من الحاضرين؛ فلو كتبَ: تزوجتُكِ، فكتبَتْ: قَبِلْتُ، لم ينعقد".
وقال العلامة أبو البركات سيدي أحمد الدردير المالكي في "الشرح الصغير" (2/ 350، ط. دار المعارف): "ولا تكفي الإشارة ولا الكتابة إلا لضرورة خرس، (ولزم) النكاح بمجرد الصيغة لأنه من العقود اللازمة بلا خيار (ولو بالهزل) ضد الجد: كالطلاق، والعتق، والرجعة".
وقال العلامة الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (10/ 168، ط. دار الكتب العلمية): "وفي امتناعنا من ذلك خروجُ الكتابة من حكم الكلام، ولأنه لو كانت الكتابة صريحًا كالكلام لصحَّ بها عقد النكاح، كما يقع بها فيه الطلاق، وفي إجماعنا على أن عقد النكاح بها لا يصحُّ دليلٌ على خروجهما من صريح الكلام في الطلاق".
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشَّاف القناع" (5/ 39، ط. دار الكتب العلمية): "و(لا) يصح النكاح (من القادر على النطق) بإشارة ولا كتابة للاستغناء عنها (ولا) يصح إيجاب النكاح ولا قبوله (من أخرس لا تفهم إشارته) كسائر تصرفاته القولية؛ لعدم الصيغة".
فالحق أنه لا بد من التفريق بين عقد الزواج الشرعي ووثيقة الزواج الرسمية؛ فإن عقد الزواج في الحقيقة الشرعية إنما هو الإيجاب والقبول مع توفر أركانه وشروطه، أما التوثيق الرسمي فما هو إلا شيء زائدٌ على حقيقة العقد وماهيته وشروطه.
والذي عليه الفتوى والعمل في المحاكم المصرية أنه إذا تم عقد الزواج بين رجل وامرأة خاليين من الموانع الشرعية، مع توفر بقية الأركان والشروط، كان العقد صحيحًا تترتب عليه آثاره الشرعية بلا حاجة إلى الكتابة والتوثيق، والقانون المصري لا يعارض في صحة الزواج غير الموثق ما دام قد استكمل الشروط والأركان الشرعية الواجبة له، إلا أنه يؤكد بعض الأمور الإجرائية التي تُسَوِّغ سماع دعاوى الزوجية وقبولها لدى القضاء؛ فالقانون في مصر حين اشترط التوثيق لسماع دعوى الزوجية لم يشترطه لصحة الزوجية ذاتها؛ بل إنَّ المشرِّع المصريَّ لا يملك ذلك، وإلا كان مخالفًا لمقتضى الشرع الشريف بإضافته لأركان الزواج ما ليس منها، وإنما كان هذا الاشتراط درءًا لحالة واحدة هي حالة الإنكار؛ فجُعِل التوثيق في هذه الحالة شرطًا لسماع الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج.
ومن المقرَّر أن حفظ العرض والمال من مقاصدِ الشريعة الإسلامية، وعلى هذا فإن توثيق عقد الزواج يكون مطلوبًا شرعًا؛ فهو سبيل لحفظ الحقوق وثبوت الأنساب ومنع التناكر، غير أن المطالبة بالتوثيق لا تستلزم البطلان بتركه؛ فإن التوثيق إنما هو تأكيد للحق بأخذ الوثيقة عليه، والأصل في الوثيقة أنها كاشفة لما حصل لا لإنشاء ما لم يحصل؛ أي أن توثيق الحقوق فرعُ ثبوتها، فإذا ثبت الأصل صح ابتناء الفرع عليه، ولا يصح أن يكون إثبات الفرع سببًا لإبطال الأصل، وقد أشارت نصوص الشريعة إلى ذلك؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 282].
وعليه فالزواج غير الموثق بوثيقة رسمية، سواء كان مكتوبًا أو غير مكتوب، يكون زواجًا صحيحًا إذا استوفى أركان الزواج وشروطه التي وضعها الشرع الشريف كما تقدم.
إلا أنه لا بد من مراعاة شيء يغفُلُ عنه كثير من الناس، ألا وهو الفارق بين كون الزواج صحيحًا وبين حِلِّ الإقدام عليه؛ فإن مجرد استكمال الزواج لأركانه وشروطه لا يعني أن فعله جائز دائمًا، وهذا هو ما تجب مراعاته في العلة التي تدعو الرجل أو المرأة لعدم توثيق الزواج؛ فإن الأحكام تدور مع العلل وجودًا وعدمًا.
وبناءً على ذلك: فعدم توثيق عقد الزواج لدى الجهات الرسمية من أجل الاحتفاظ بالمعاش والحضانة فعل يحرم الإقدام عليه شرعا؛ لاشتماله على: الكذب، والتدليس، والتحايل لأخذ الأموال بغير حق، كما أنَّ فيه تضييعًا لحق الزوجة غالبًا، وفتحًا لأبواب التناكر والتنازع، رغم صحة عقد الزواج ووجوب آثاره وترتب أحكامه شرعًا ما دام قد استكمل شروط الزواج وأركانه الشرعية فيه مع كمال الأهلية وانتفاء الموانعِ.