المضابط لا تكذب ولا تتجمل!
عشت تحت قبة البرلمان المصرى بجناحيه الشعب والشورى أكثر من أربعين سنة.. منذ أن اختارنى الأستاذ الكبير أنيس منصور، رئيس تحرير مجلة أكتوبر فى السبعينيات، لأكون مندوبًا للمجلة فى مجلس الشعب.. وأن أمد المجلة بالأخبار والتحقيقات الصحفية وأن أتابع جلساته ولجانه.. وكل ما يدور تحت القبة.. ولا أستطيع أن أنسى أبدًا كلماته لى لأول مرة فى بداية عام 1977 عندما قال بالحرف الواحد:
«إن مصر كلها ستكون تحت عينيك وبين أصابعك.. وأنك سوف تذهب إلى كنز صحفى لا يتاح للكثيرين من المحررين.. فحاول أن تمدنا بكل ما فى المجلس».
وأكد لى أنه غير متعجل فى أن أبدأ العمل ولكن يجب أن أدرس أولًا.. وأن أكوِّن شبكة علاقات مع الأعضاء.. وأتابع اللجان بكل دأب ونشاط، فهى المطبخ الرئيسى لأى برلمان فى العالم.. ثم أبدأ الكتابة».
وكانت هذه هى مدرسة أنيس منصور الصحفية القائمة على العلم والدراسة والعلاقات والبحث والتنقيب وراء الخبر.. فهو لا يرفض أى فكرة تعرض عليه، حتى ولو كانت «محروقة أو بايتة» بالتعبير الصحفى.. ولكنه كان يطورها لنا ويرشدنا إلى المصادر الجديدة التى يمكن الاستفادة منها.. سواء كانت مصادر حية أو دراسات أو كتبًا أو حتى نسافر إليها فى شمال مصر أو جنوبها.. وكان لا يجد غضاضة فى أن يتصل لنا بالمصدر ويقدمك له بأفضل كلمات.. وربما يحجز لك موعدًا.
وخلال حصاد السنين كمحرر برلمانى من الشباب إلى الشيخوخة.. عاصرت تحت القبة أحداثًا جسامًا مرت بها مصر غيرت فيها وجه التاريخ فى الداخل والخارج.. وعاشرت وتابعت آلاف النواب فى المجلسين من كل الأشكال والألوان والأحجام.. واستطعت أن أفرق بين النواب الذين جلسوا تحت القبة بالصدفة والذين ينافسون «أبو الهول» فى صمته، والنواب الذين جاءوا إلى القبة ليدافعوا عن حقوق هذا الشعب الغلبان.. وكانوا يزلزلون المقاعد من تحت الوزراء من خلال دورهم الرقابى.. ولا يخافون فى الحق لومة لائم، وشاهدت نوابًا كانوا يدفعون ملايين الجنيهات من أجل الفوز بكرسى البرلمان ليتمتعوا بالحصانة ويحققوا من وراء هذا الكرسى الغالى مصالحهم الشخصية بحكم قربهم من صناع القرار أو لمجرد الوجاهة الاجتماعية أو تحقيق النعرة القبلية، وكنت أرى نوابًا ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا نوابًا «إمعة» يقولون لحزب الأغلبية نعم إذا قال ولاة الأمر «نعم» ويقولون «لا» إذا جاءتهم التعليمات بأن يقولوا «لا».. وعاصرت نواب المخدرات، ونواب سميحة الذين تورطوا فى فضيحة جنسية، ونواب القروض والنقوط والتأشيرات والمحمول، والنائب الصايع، ونواب «عبدة مشتاق» وهم الذين يشتاقون إلى كرسى الوزارة، وأذكر أن أحدهم قال لى أثناء المشاورات لتشكيل وزارة جديدة إن «العداد قلب» وإنه ما زال ينتظر دخوله الوزارة، وعاصرت نوابًا من الذين يمكن أن نطلق عليهم نواب كل العصور ويرقصون على كل الحبال، ويلعبون بالبيضة والحجر.. ويظن الناس فى خارج القاعة أنهم معارضون شرفاء وعصاميون.. والحقيقة أنهم كانوا أبعد ما يكونون عن الشرف والأمانة والآيات القرآنية التى يرددونها والأحاديث النبوية التى يستشهدون بها فى أحاديثهم المنمقة. ولكنهم - للأسف - كانوا يؤدون دور المعارضة تحت القبة استكمالًا للشكل الديمقراطى فقط.
والحقيقة أن التاريخ البرلمانى لا يمكن أن ينسى نوابًا شرفاء فى السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ضحوا بحياتهم وصحتهم وأموالهم من أجل الدفاع عن المواطنين.
فنحن لا نستطيع أن نغفل دور المعارض الشرس ممتاز نصار الذى أنقذ هضبة الأهرام من بيعها لإحدى الشركات السياحية المشبوهة لاستثمارها سياحيًّا، ولا فارس المعارضة علوى حافظ الذى فضح كل صور الفساد الذى استشرى فى نظام مبارك بعد توليه الحكم بعد اغتيال الرئيس السادات.. والعملاق محمود القاضى، وخالد محيى الدين والبدرى فرغلى وأبو العز الحريرى الذين كانوا يحذرون من بيع أصول مصر بتراب الفلوس.. وأيضًا الفقيه القانونى والدستورى المستشار عادل عيد، وحمدى الطحان الذى كشف الإهمال والقصور فى كارثة العبارة التى راح ضحيتها 1033 شهيدًا.
*****
إننى عندما أسرد كل هذه الوقائع البرلمانية لنواب الشعب وممثليه.. أتمنى أن تكون دروسًا لهم لأن أكثرهم لم يعاصر هؤلاء العملاقة.. وبعضهم لم يعاصر بعض المواقف الصعبة والمهمة التى كان البرلمان يتحدى فيها حكامه ومن بيده الأمر والنهى.. وكان النواب يقفون بكل شجاعة أمام الطواغيت وترزية القوانين والعابثين بالدستور. فمضابط البرلمان لا تكذب ولا تتجمل.. فهى شاهدة على التاريخ!
mohamedelmasr1@ hotmail.com