رشا رمزي تكتب: الهمجى.. بالطريقة الإثيوبية
لم يكن الرائع لينين الرملى ومحمد صبحى أن يتخيلا تجسيد مشهد محمد صبحى، وهو يلعب دور آدم فى مسرحية الهمجى، وهو يتم استفزازه من قبل شخص هزيل قصير ضئيل ويتحداه فى الجملة الشهيرة "متقداااااارش".. بينما آدم يمسك زمام الصبر حتى يصيح به وقد خرج عن رفقه بهذا الشخص المتواضع «بأمارة إيه؟!.. شوف عودك وشوف عودى».
قفز هذا المشهد الكوميدى إلى عقلى وأنا أتابع تواتر التصريحات الإثيوبية المستفزة بدءًا من التحدى السافر بإنشاء 100 أو 1000 سد على روافد نهر النيل، والاستمرار فى الإصرار على الملء دون موافقة كل من مصر والسودان.. إلخ. وباقى تصريحات المسئولين الإثيوبيين من أول آبى أحمد ووزرائه، وحتى قادة الرأى من أساتذة الجامعة وخلافهم.
وهنا أنا لا أستهتر أبدًا بإثيوبيا كدولة كبيرة ذات نفوذ فى إقليم شرق إفريقيا أبدًا، حاشا لله؛ لكن بكل المقاييس رغم مدى أهميتها وكونها دولة رائدة فى إقليمها إلا أنها لا تقارن بمصر.. وذلك ليس من باب المباهاة المصرية والفخر الأعمى، فقدرات ومقومات مصر لا يختلف عليها اثنان.
لكن ما فجر الكوميديا فى هذا المشهد هو عينه ما أثار أسئلة لدى العديد من الأصدقاء الذين تساءلوا عن دوافع النظام الإثيوبى فى هذا الاستفزاز المستمر، وكأن المقصود هو إشعال أتون الحرب والسعى لها من قبل إثيوبيا.
إجابة هذا السؤال يمكن أن نجدها عندما نطَّلِع ولو قليلًا على الداخل الإثيوبى وما يعتريه من فوضى وغليان تحت الرماد. فمشاكل النظام الحاكم الإثيوبى الداخلية واضحة سواء مع إقليم تيجراى وما ارتكبه من فظائع ضد هذه الإثنية ليست بخافية على أحد، مما استتبع وجود ضغوط دولية عالية المستوى ضد ما ارتكب وما زال يمارس حتى وقتنا الحالى. أو مشاكله مع كل من الأمهرة والأورومو وحتى إقليم الأوجادين الصومالى المحتل، كل تلك أزمات تصاعدت منذ أن قرر آبى أحمد تغيير شكل النظام الحاكم الذى تشكل منذ تولى ميلس زيناوى الحكم بقيادة الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبى (EPRDF)عام 1994. فقد شهد عام 2016 مظاهرات كانت الأعنف شملت مناطق متعددة من إثيوبيا تبعها حملة اعتقالات للقادة والسياسيين والتى كانت أكثر عنفًا فى إقليم الأورومو الذى كان محكومًا من قبل آبى أحمد بسبب رفض مواطنى الأورومو التخلى عن أراضيهم.
وبالرغم من بداية أحمد حكمه بمبادرات بدت إيجابية وقتها منها الإفراج عن العديد من السياسيين ومنح النساء بعض الحريات، و جراء مصالحات مع القوميات فى الأقاليم المختلفة فى إثيوبيا إلا أن إنجازه الأكبر هو عقد صلح مع إريتريا (التى كانت على عداء وحرب استمرت أكثر من عشرين عامًا) مما أهله للحصول على جائزة نوبل للسلام؛ إلا أن هذا السلام عاد اليوم على إقليم تيجرى بالخراب والقتل والدمار. فأعداء الأمس أصبحوا حلفاء اليوم ضد شعب أعزل؛ كل ذلك بسبب إصرار تيجراى على إجراء الانتخابات الإثيوبية فى موعدها والذى كان أحمد قد قرر إلغاءها العام الماضى 2020 بسبب أزمة كورونا. وهذا الإصرار اعتبره أحمد عصيانًا استوجب العقاب والمحاصرة بقوات الجيش الإثيوبى بل وصل الأمر للاستعانة بالجيش الإريترى أيضًا ضد أبناء جلدته، مما قد يدخله فى خيانة شعبه.
كل ما سبق بالإضافة لما تعانى منه إثيوبيا من أزمات اقتصادية، واتهامات من قبل القوميات الأخرى للحكومة بالفساد؛ علاوة على تبعات انتشار وباء كوفيد-19؛ أصبحت هناك ضرورة حتمية لخلق حالة عداء خارجى كضمان لبقاء آبى أحمد فى منصبه واحتفاظه بالكرسى. وعند استعراض احتماليات رد الفعل المصرى المتوقع على هذه الاستفزازات المريبة سنجد أحد أمرين لا ثالث لهما:
- إما أن ترفض مصر هذه الاستفزازات والتعنت الإثيوبى الخاص بالملء وتقوم بإجراء عنيف ضد السد سبب الأزمة أصلًا؛ وبالتالى سيستفيد آبى أحمد من هذا التصرف بالدعوة للم الشمل الإثيوبى الداخلى وإسكات حركات المعارضة الداخلية لمواجهة العدو (مصر).
- وإما أن تسكت مصر وتتعامى عن هذه الاستفزازات وتواصل ضبط النفس؛ بينما يستمر النظام الإثيوبى فى فرض سياسة الأمر الواقع ليس باستكمال الملء المجحف لدول المصب؛ بل أيضًا ربما البدء فى تنفيذ سدود أخرى وأعمال أخرى على النهر.
فى كلتا الحالتين السابقتين لن يخسر آبى أحمد أى شىء بل بالعكس هو الرابح حتى لو تم تدمير السد، فهو فى كل الاحوال «مستبيع»؛ ستخسر إثيوبيا الكثير وسيربح أحمد، بينما تخسر مصر فى الحالة الثانية الكثير ليس الماء وحده؛ بل الكرامة والهيبة والنفوذ «فليس بعد حرق الزرع جيرة»، والكبير يضبط النفس لكنه يؤدب أيضًا من يصر على أن يخرج على السياق.