النهار
الإثنين 30 ديسمبر 2024 09:23 مـ 29 جمادى آخر 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

مقالات

محمد عز يكتب : أربعون يوما علي فراق أبي

ولأنه أبي

فالرجال عندي اثنين

أبي

وبقية الرجال ..

ولأنه أبي

ولأنه أبي أحمد إبراهيم عز دمعته قريبة وارتجافة شفته تفضح مشاعره التي تنتابه كلما حدث مكروه أو شعر بظلم أحد أيا كان فقد أكرمه الله بأن يفرق بين الحق والباطل وكان يكرر دعاء " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه "

ولأنه أبي ومن طول عشرته ورفقته منذ نعومة أظفاري فقد أمسكت بمنبع نهر دموعه واي شئ يؤثر فيه ويمسك بتلابيب قلبه ويغير كل لون حزين في عينه فكنت أبادره كلما اعتراه هم أو كدر وما أكثر الهم والكدر عند من هم مثل أبي.. أسمعت الشيخ بسيوني النهاردة ؟فكان يأتي رده

أيوه سمعته كان بيقرا "إن الذين قالو ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون "

ولأنه أبي اصطحبني في طفولتي لنستمع إلي الشيخ محمد بسيوني وحينما سمعته يقرأ « وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا».. شعرت ويكأن البلح في يد ابي يؤكلني منه بل واستطعمته متذوقا حلاوته من يد أبي وأنا جائع

ولأنه أبي لم يطلب شيئا من أحد إلا حينما ابتلاني الله وكنت في ضيقة فضاقت عليه نفسه بما رحُبت وما حَملت من حب واحتواء ، وهم أن يدق كل أبواب الأرض ويطرق كل أبواب السماء ويُخاطب كل ابن آدم ويُلح في الطلب علي الله .. فقد كسره ابتلائي وأسره المرض وكانت بداية النهاية ..

ولأنه أبي فقد اشتاق لولده اخي الأصغر وابني البكري في غربته واشتاق لضمته وحَن إلي حضنه فكابر وأنكر حتي لا يكلفنا مئونة سفره وتكاليف غُربته .. وحينما ألححت عليه أن يسافر فقد كان فات الأوان .. وتملك المرض من الجسد الطاهر، ونهش السرطان اللعين في رئتيه مارا بيديه وشرايينه بشراهة لينتقم من جسد لم يشكوا إلا إلي الله

ولأنه أبي أحمد إبراهيم عز " فمن أنا دونك يا أبي ؟

‏قل لي : أَيَغدُو البحر بحراً دون ماء ؟ "

ولأنه أبي ، فبموته تكومت فوق راسي عذابات الدنيا نهشت في عقلي نبشت في قلبي كسَرت في عظامي وهشمته .. كيف كنت يا ابي تحمل هذا عني؟

ولأنه أبي فبين ضلوعه حملني وسافرت الي كل العصور وشاهدت كل مدارس الرجولة وعايشت كل الرجالات واستمعت الي كل الحكايات حتي صرت جزءا منها ، ليالي طويلة يا ابي تحكي لي عن شجاعة هذا وعن كرم ذاك وعن رجولة هؤلاء.

ولأنه أبي فقد كان وفيا لأمي طوال عمره وبارا بأبيها جدي عليه رحمة الله ومحبا لأخوالي لأنهم من نسل أبيهم ، وعاشقا لخدمة أعمامي وعماتي ويغار عليهم من الهواء ، وأحب أصدقائي كما أحبني وأحبه أصدقائي أكثر مما أحبوني .

ولأنه أبي فقد اصطفاني الله لأكون بجواره طيلة عمري وهذه هي المنحة الربانية التي أكرمني الله بها وزاد كرم ربي علي أن أكون ملاصقا له علي مدار 4 أشهر في المستشفى ولما طلب مني أن أغادره وأبيت في بيتي ليلة رفضتُ وقلت له لن أتركك "جينا المستشفى سوا وهنمشي سوا يا حج" فبانت الفرحة في عينيه وكأنه كان يريدها ويتمناها .

ولأنه أبي تَوسد رأسه ذراعي في عربة الإسعاف .. وودت أن ينام علي قلبي ، فهو مني قلادة سموي وملاك رحمتي ، ومصدر أماني وسر بهجتي ، وها هو يعبر إلي رحلة البرزخ ، لحظات وانقطع اختراق الهواء للرئتين المريضتين ، لأول مرة يفتح كفيه أبي لا طالبا شيئا من الدنيا بأسرها بل تاركها وما فيها خلف ظهره ، وفي قبض كف الطفل آية ، وفي بسط كف أبي آيات ، لتكون أخر نظرة منه الي الدنيا في عيني أنا وقرأت عليه الشهادة ورددها ليلفظ الروح الطاهرة بكل نفس راضية مستقبلا حياة قبره بكل الرضا وكل الحمد وكل طيب الخاطر

ولأنه أبي فقد كتب وصيته واختار من يغسله ومن يلحده وحدد قبره ومن يحفره ومن يطمئن عليه في قبره وطريقة دفنه وأوصي بها أعمامي " يوسف وعزت" مرة واثنتين محددا لهم من يحفر القبر ومن يجهز اللحد ومن يغسله ..

ولأنه أبي فقد خلعت قلبي وغسلته بيدي وحملته علي عنقي ولم أفارق نعشه ، وصليت عليه جنازته وسمعت شهادة الصالحين فيه حتى أدخلته القبر بيدي

ولأنه أبي فقد دخلت معه قبره واطمأننت عليه وعلي دفنه كما وصاني وبالطريقة التي أرادها علي سنة الله ورسوله وفي القبر الذي طلبه ، وأسررته بكلمات كان يحبها مني بينما بخل هو علي بكلمات أحبها منه لأول مرة في عمره ومن لحظتها ستظل القلوب جريحة والنفوس مطوية على الكثير من الأحزان.

قسمًا بمن أحل القسم لا شيء في الدنيا بعد ابتسامتك يعتريني فلتذهب الدنيا وما فيها فداء دخان سيجارتك

ولأنه أبي لم أستطع أن أوفيه حقه أو أكون البار كما يجب أن يكون قصرت في حقه كثيرا ، وسرقتني الدنيا كثيرا من حضنه، وإن كنت أكثر أخوتي التصاقا به منذ طفولتي حبا في دفا قلبه والتصاقا بظهره الحنون

ولأنه أبي كان يسوقني إلي التعليم ..تعلمت يا أبي وصرت رجلا وحققت حلمي بأن أكون كاتبا وعضوا بنقابة الصحفيين ، وحلمك أن يكون لي ولد من صلبي يحمل اسمك ،واسمه أحمد حتي تناديني يا ابن أحمد وأبو أحمد ، وحملت أحمد يا ابي وفرحت به وكنت أحن عليه من أمه وكان أحن عليك من أمك .

أتعرف يا أبي أنه ما زال يسألني عنك .. أتذكر يا أبي أن فاطمة الكبري ابنتي طلبت ليلة وفاتك أن تنام بجوارك وأنت فرحت لطلبها ؟

ألم تعرف يا أبي أن كل الهم في بعدك ، و أن سواد الدنيا في فقدك، و أن مغرب عالمي في موتك ، بل قل يا ابي أن انتهاء عالمي بوفاتك ، ولتعلم يا أبي أن ساعة الزمان توقفت معي عند خروج روحك علي ذراعي وأنت تنظر إلي مبتسما راضيا .

عجز

خانني قلمي يا أبي لم أعبر عما يجيش به الصدر فقسما بالله جرح ينزف ليل نهار وكيف أعبر عن نزيف الروح وإن كانت الروح لا تري فهل يري نزيفها ؟.

أوجعتني يا أبي لأول مرة علي مدار اثنتين وأربعون عاما تكون قاسيا معي وتفارقني.. قسوت يا أبي بخروج روحك قسوت يا أبي حين غادرتني

بل قسوت يا أبي حين أحببتني حبا فوق كل الحب.. لم كنت هكذا ؟أي قلب أنت وأي جسد أنت وأي عقل أنت واي احتواء أنت ؟؟ كيف كنت يا رجل؟

عهد ويقين

وحتي نلتقي يا أبي لك مني عهد أن لا أنساك في صلاة وأن لا أنساك في دعاء وأن أبر من أحببت وأود من وددت وأكون خادما لمن أحبك .. ونفذت وصيتك كاملة يا أبي .. كاملة والله ،وما عجزت عنه أنا تكفل به الله كأن بينك وبين الله سر يا حج أحمد لمَ لم تخبرني بسرك مع الله واكتفيت بقولك ربنا يقدر عليها حينما اعتذرت عن وصية من وصاياك .. وقلت لك مقدرش علي دي ؟

ويقين سنلتقي يا ابي على روابي الجنة على ضفاف أنهارها ونتوسد نعيمها لن يكون بعد اللقاء موت ولا فراق أحسبك والله حسيبك من الصالحين وفي صحبة النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .