تأملات كائنة غريبة جداً في المترو (3)
بقلم : منال الصناديقى
- سيبي الواد المحطة دي بتعتي وأنتي مارجعتهوش في المحطة اللي فاتت زي ما اتفقنا.
= سيبيه أنتي هو أنتي يعني خلاص مش قادرة تستني لما أسترزق شوية.
احتدت المشادة بين متسولتين في المترو وكل منهما تجذب الطفل الرضيع بين أيديهن والولد يصرخ بشدة مما أسترعى انتباه الراكبات فترقبن الموقف خشية أن يتطور الأمر إلى إصابات بين الطرفين، ولكن الله سلم حين ركب في المحطة التالية شاب فتيّ زجر المتسولتين بشدة وأمرهما بالنزول لحل المشكلة.
كانت الكائنة الغريبة تترقب الموقف ولا تصدق أذنيها فمنذ برهة كانت تدعي إحدى المتسولتين أن الولد إبنها وأنه مريض وتريد أن تحضر له علاجاً ولا تستطيع؛ وها هى الحقيقة تنجلي بأن الولد يؤجر بعدد المحطات...!!
الأبناء..
هم كلمة السر التي ترقق القلوب وتسحب الآذان إلى واحة الاستماع والتعاطف، لذا يعزف عليها كل عابر، فإذا أراد متسول أو بائع متجول أن يلتقط من جيبك جنيهات فهو يعلم جيداً أن شكواه من جوع الأبناء ومرضهم وشظف عيشهم وعدم قدرتهم على إكمال دراستهم بسبب الفقر وسيلة رابحة لسحب كل ما في جيبك عن طيب خاطر، ويا حبذا لو استعطفتك النساء منهن بيتم أبنائها أو كانت تحمل طفلاً معدماً وتستجدي به الركاب؛ وبالرغم من يقين البعض بأن المحتاج الحقيقي يستحي من طلب السؤال حتى أنهم كما وصفهم رب العزة في كتابه الحكيم (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) سورة البقرة ... إلا أن النسيان أو ربما التعلق دائماً بالأبناء هو الذي يفتح باباً لتصديق من يسألون الناس إلحافاً.
حتى هؤلاء الذين يفسدون أحياناً يتم العفو عنهم من أجل أبناءهم...!!
دارت أفكار كثيرة في رأسها وهى لم تفق بعد من موقف المتسولتين.. ثم فوجئت بتلك السيدة التي في نهاية الأربعينات من عمرها تدخل المترو دافعة ابنتها المراهقة في عنف شديد صارخة فيها بجملة واحدة تتكرر بعصبية وقهر: ميت مرة أقولك أسمعي الكلام، ومافيش فايدة...!!
كانت وكأنها لا ترى أحداً أمامها من كل المكتظات في العربة، وهن تنظرن إليهما بذهول حتى أن الجميع فيما يبدو ألجمته المفاجأة...
لم تكتف السيدة بدفعها والصراخ بل تمادت في ضربها باليد تارة ودفعها أخرى لتصدم رأسها بل وجسدها كله بباب المترو المغلق عدة مرات حتى أن نظارة الشمس المعلقة على رأسها وقعت على الأرض وأنكسرت؛ والبنت يبدو القهر الشديد على ملامح وجها وفي رعشة جسدها وهى تحاول أن تحتويه بين يديها المفرودتين بالعكس لتتقوقع أكثر داخلهما وتتساقط دموعها في صمت.
لم ينقذ البنت سوى فتاة في نهاية العشرين من عمرها اندفعت لتقف بين الاثنتين حائلاً محاولة تهدئة الأم واحتواء الموقف مرددة: ماينفعش كده لما تروحوا البيت أعملوا اللي انتوا عايزينه.. الناس بتتفرج عليكم...
كانت الأم تردد عبارتها بدون وعي والسيدات بعضهن مستنكرات للموقف، وآخريات يرددن: يا ترى عملت إيه عشان تخليها تضربها كده...!!
قفز على بالها المثل الشعبي الشهير (لما قالوا دي بُنية انهدت الحيطة علىّ) فبرزت له أغنية سعاد حسني (البنات البنات ألطف الكائنات) لتطرد من رأسها كل الأفكار الغريبة، وسألت نفسها وهى تنظر برفق تجاه الأم وابنتها: يبدو من ملابس الأم أنها من طبقة فوق متوسطة ومثقفة ومحتشمة وكذلك البنت فلماذا كل هذا على الملأ...!!
أخذت نفساً عميقاً وتحركت تجاه الباب حامدة الله أن محطتها قد شارفت على الوصول، ومع انفتاح باب المترو، واندفاع الجميع للنزول.. ارتطمت رأسها بكل قوة في رأس الفتاة التي كانت تتقدمها وتوقفت فجأة عقب نزولهما من المترو و..
للحديث بقية...