بين الحداثة والحضارة
* بقلم : مدحت شنن
كلاكيت ثالث مرة .. إخفاق السفيرة مشيرة خطاب في انتخابات الأمين العام لمنظمة اليونسكو, لتلحق بمرشحي مصر السابقين دكتور فاروق حسني والدكتور إسماعيل سراج الدين . ومن حينها تعددت التفسيرات وخرجت علينا التحليلات ترجع هذا الإخفاق لكواليس العملية الانتخابية وما تحويه من تكتلات خفية بين الدول تحكمها المصالح المشتركة وشراء الأصوات , ورغم وجاهة هذا الرأي من جانب إلا انه قاصر ولا يمثل الحقيقة كلها, لأننا لم نتعلم من أخطاء الماضي , ولم نفكر في بواعث الإخفاق الحقيقية لنتجنبها في الجولات القادمة على الأصعدة المختلفة, وكأننا لمسنا في أعماقنا شعورا بالارتياح لهذا الفشل.
إن أهم ما يواجهنا كمجتمع مصري على وجه الخصوص ومجتمع عربي على وجه العموم, أننا نعتمد على تاريخنا ونتكئ على ماضينا الذي ولى وصار قصصا تحكى ونحن نمصمص الشفاه ونبكي على الإطلال. نلتمس حداثة الآخر فنستهلك تقدمه ببرود الكسول الذي ارتضى حاله دون أن نعبأ بنظرته حولنا فصرنا نشم رائحة الورود الزكية ولا ندري رأيها في رائحتنا.
والمدهش أن منظمة اليونسكو هي المنظمة الأممية المعنية بالتربية والثقافة والعلم , وهي التي تعمل على بناء حصون السلام باعتباره بديلا للحرب. ومن هذه المعطيات يبرز التساؤل ...
هل نحن جديرين بتولي منصب دولي يهتم بالثقافة والعلم؟
هل حققنا طفرة في بلادنا في هذا المجال ونرغب في تطبيقها على الصعيد الدولي من خلال تولي هذا المنصب؟
بالطبع الإجابة لا . والسبب أن علاقتنا بالحداثة منعدمة , والمتابع للمشهد العربي يجد أنه كثيف بالضبابية والتشاؤم , حيث نمت الحشائش الطفيلية فتضاءلت مساحات الرؤية والاتصال بيننا وبين الآخر, وزاد هوسنا بمبادئ المحاكمة الذاتية والاتهام بالتخوين بعيدا عن الحوار وقبول تعدد الآراء وأفكاره, وأصبحت التهم بالزندقة والكفر جاهزة ومعلبة لكل من يدعو إلى الحداثة رغم براءتها من هذه الأكاذيب إذا كانت تمثل التجديد الواعي المتوافق مع قيمنا.
وتعود هذه النظرة العبثية إلى أن مجتمعاتنا العربية تعيش حالة انفصام, لان ما تم بعد استقلالها ليس سوى تحديث مادي من خلال استهلاك المنتجات التقنية الغربية دون أن يوازي ذلك تحديث فكري وثقافي, ولم نكلف أنفسنا البحث عن سبل التطور والتجديد التي تقوم أولا على مبدأ تحرر الإنسان في عقله ليعبر عن ذاته باعتباره كائنا مستقلا , وتقليص المسلمات الواهية والقناعات التي أصبحت قيدا بفعل التراكمات الثقافية والسياسية عبر التاريخ. ولن يتم ذلك إلا من خلال الحداثة باعتبارها حركة نهوض وتطوير وإبداع هدفها تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك بما يناسب ديننا وقيمنا لتكون حركة تنويرية عقلانية مستمرة, هدفها تبديل النظرة الجامدة إلى الأشياء والكون والحياة إلى نظرة أكثر تفاؤلا وحيوية ومساهمة في التطور الإنساني. ولابد وأن نعي أن الكون لم ولن يستسلم لنمط واحد وسيظل في تبدل مستمر, واجتماع وفراق يحتاج منا التطور ومواكبة تبدله وإلا صرنا في درك الجهل يفترسنا التطرف ولا نلحق حتى بذيل التقدم.
صحيح أن لدينا تاريخ قد يقينا ذل الجهل, ولكن هذا وحده لا يكفي والنية وحدها إن لم يصحبها العمل فهي جنين لم يولد, وكل عمل لم يسبقه اتخاذ الأهبة والاستعداد هو حماقة وتهور, ومفهوم الحداثة بما تعنيه من تطور وتجديد واعي تحتاج دعم مجتمعي وقرارات سياسية تحارب الجهل كما تحارب الإرهاب, ومن ثم لا يمكن أن نكون مجتمعا حديثا يحترمه الآخر ويقدره ما لم نؤمن بأن الحداثة والتجديد يتجاوزان مبدأ الاستهلاك إلى مبدأ الإنتاج الإنساني الحقيقي على جميع الأصعدة , ولن يكون هذا الأمر ممكنا ما لم نحرر عقولنا من الاختطاف الأيدلوجي, ونعطيها الفرصة كي تثبت فاعليتها على مختلف المستويات , في ظل بيئة موائمة تخضع كثير من الأمور للعقل والمنهج العلمي الذي يقضي باستبعاد الخرافات والأساطير في تفسير الحوادث, لنصل إلى مجتمع قوي قادر على مواجهة الآخر بندية وكبرياء, والمدخل الضروري لهذا التحديث ينطلق من نقد العقل العربي ومواجهة النفس من أجل التجويد والوصول إلى الأفضل.
وهذا ما يدعو له الدين فلم يكن الدين مناهضا للعلم بل داعما له, والدليل على ذلك أن أبجديات العلم تقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام والانضباط, وتمدنا بوسيلة جدية نتصور بها الخالق, لنقطع بأن للكون رب خلقه بصورة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيه بمقدار حدده الله عز وجل. وبالتالي فالحداثة بما تعنيه من علم وتطور هي من صميم الدين. والعلم الحق - كما قال الدكتور مصطفى محمود رحمه الله- لم يكن يوما أبدا مناقضا للدين بل إنه دال عليه ومؤكد لمعناه. ومن هذه النقطة الناجزة لابد وأن نصل إلى الآخر في عقر داره, وأن نحمل قدرا وفيرا من ثقافتنا السوية لننثره عليه بغير حساب. وهناك تجارب عديدة تمثل نموذجا مشرفا للمثقف العربي الذي اخترق هذه المجتمعات وتعايش معها واثر فيها وقدم صورة حقيقية منصفة للمثقف العربي الذي يساهم في بناء الحضارة واعمار الإنسانية اذكر منهم الإعلامية السورية أسيل الأطرش كبير مذيعي الشبكة الرئيسية الفرنسية, والإعلامية المصرية لوران المنشاوي مسئولة الشؤون السياسية بجريدة لوفيجارو الفرنسية.
وأخير وليس بآخر أقول .. إن الوقت يصرعنا وحتى نستغله لا بد وأن نعمل ونعيش الحياة حتى آخر لحظاتها بغير فراغ أو كسل, تحكمنا نظرة حاسمة تعكس تصميمنا على الانجاز, وعزيمة لا تعرف الكلل حتى ندخل مدار النجاح بخطى حثيثة, ونغير فكرة الآخر عنا باعتبارنا مجموعة من الرعاع المتخلفين المتطرفين, اللذين يعيشون في الصحراء حيث الجو القائظ الذي يخنق النفوس . وذلك من خلال وجود يتمدد ليس محكوم عليه بالاختناق , مبني على الحوار مع الآخر باعتباره ميدان التفاهم ووسيلة لشراكة كوكبين لكل واحد عالمه, ليكون الترحاب بين مبادئنا ومبادئه بلا كلفة , يتلاقى في نقاط كثيرة تحت إلحاح الإنسانية.
لابد وأن يتسع بنا الخيال ويحملنا لأحلام تزيد الدنيا بهجة وتطورا , فمأساتنا أننا لم نحيا طفولة توسع مدارك الخيال , وتربينا لنكون عبيد بوجه شمعي أملس وجسد مشدود لا عقل فيه, وأفق ضيق لا يرى إلا تحت قدميه وتنازعه أفكار عفا عليها الزمن. فلولا الخيال لانحبست حياتنا في زاوية ضيقة خانقة, لأنه الوحيد القادر على عبور تلك المسافة الصماء بين الرجاء وإمكانية تحقق الأمل, لذا تنفسه والتغذي عليه واجب حتمي لنقاوم اليأس والملل والتجاهل , وننطلق إلى براح متسع لإمكاناتنا وقدراتنا الخلاقة القادرة على التفاهم مع الآخر والعبور نحو المستقبل ..
حينها سنقول لمصرنا.. مبروك منصب اليونسكو .
* روائى مصرى و محامى بالنقض