جمال الغيطانى تجليات صحفى عاش ألف عام
بعد 70 عامًا عاشها الصحفى والأديب والإنسان جمال الغيطانى على أرض مصر وفى حبها رحل على إثر تعرضه لوعكة صحية بسبب ضيق فى التنفس ودخول فى غيبوبة لمنع وصول الأكسجين إلى المخ، نقل على إثرها إلى مستشفى الجلاء العسكري.
ملخص حياة الغيطانى يقول إنه ولد فى الأربعينيات .. وكتب فى الخمسينيات أول مجموعة قصصية فى حياته وفى الثمانينيات أصبح رئيساً لقسم الأدب فى صحيفة أخبار اليوم وفى التسعينيات أسس صحيفة أخبار الأدب وفى الألفية الثالثة حصل على جائزة الدولة التقديرية.
لكن عطاء الرجل رحلة طويلة وستدوم طويلاً كما سنروى فى السطور التالية لنكشف عن شخصية بالغة الثراء فإلى التفاصيل:
رحل جمال الغيطانى بعد أن أودعنا بعض أسرار رحلته فى الحياة، رحلة تعمق فيها بالتراث العربى وتدثر فيها بآثار القاهرة فى الزمن الجميل، عاش الغيطانى بعشقه وتعمقه للتراث ألف عام ويزيد، وروى ونسج بفنية معانى جميلة . رحل المراسل الحربى وشاهد تفاصيل الهزيمة فى 67 والنصر فى 73، كان واحداً من قواد فريق الحرافيش الذى صادق محفوظ وائتمنه على أسراره الأدبية ، فكان خير حافظ، وكان اليد التى تمتد بالعون لكل المبدعين الشباب عبر صفحات "أخبار الأدب".
كانت زوجته ماجدة الجندى تستنهضه من أزمته المرضية الطاحنة، فتناجيه بجريدة "الاهرام" بهذه الكلمات: "انهض يا مليكى .. ازح قحط الدنيا وجلافة الحضور .. انهض ولا تدع ما تبقى من أعمارنا يهرب".
جمال أحمد الغيطانى علي، ولد فى التاسع من مايو عام 1945، فى قرية جهينة محافظة جرجا (سوهاج حاليا)، نشأ فى القاهرة القديمة، حيث عاشت الأسرة فى منطقة الجمالية، وأمضى فيها ثلاثين عاما، تلقى تعليمه فى مدرسة عبدالرحمن كتخدا الابتدائية، ومدرسة الجمالية الابتدائية.
تلقى تعليمه الإعدادى فى مدرسة محمد على الإعدادية، بعد الشهادة الإعدادية التى حصل عليها عام 1959، التحق بمدرسة العباسية الثانوية الفنية التى درس بها ثلاث سنوات فن تصميم السجاد الشرقى وصباغة الألوان.
تخرج عام 1962، وعمل فى المؤسسة العامة للتعاون الانتاجى رساما للسجاد الشرقي، ومفتشا على مصانع السجاد الصغيرة فى قرى مصر، أتاح له ذلك زيارة معظم أنحاء ومقاطعات مصر فى الوجهين القبلى والبحري، اعتقل عام 1966 بتهمة الانتماء إلى تنظيم ماركسى سري.
وأمضى ستة شهور فى المعتقل تعرض خلالها للتعذيب والحبس الانفرادي. وخرج من المعتقل فى مارس 1967. عمل مديرا للجمعية التعاونية لخان الخليلي، وأتاح له ذلك معايشة العمال والحرفيين الذين يعملون فى الفنون التطبيقية الدقيقة.
بعد صدور كتابه الأول عرض عليه محمود أمين العالم المفكر الماركسى المعروف، والذى كان رئيسا لمؤسسة أخبار اليوم الصحفية أن يعمل معه فانتقل للعمل بالصحافة، بدأ يتردد على جبهة القتال بين مصر واسرائيل بعد احتلال إسرائيل لسيناء، وكتب عدة تحقيقات صحفية تقرر بعدها تفرغه للعمل كمحرر عسكرى لجريدة الأخبار اليومية واسعة الانتشار، وشغل هذا التخصص حتى عام 1976 شهد خلالها حرب الاستنزاف 1969 – 1970 على الجبهة المصرية، وحرب أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية. ثم زار فيما بعد بعض مناطق الصحراء فى الشرق الأوسط، مثل شمال العراق عام 1975، ولبنان 1980، والجبهة العراقية خلال الحرب مع إيران (عام 1980- 1988).
منذ عام 1985 أصبح محررا أدبيا لجريدة الأخبار، وكاتبا بها، ثم رئيسا لتحرير (كتاب اليوم) السلسلة الشهرية الشعبية ثم رئيسا لتحرير أخبار الأدب مع صدورها عام 1993.
نشر أول قصة يوليو 1963. وعنوانها "زيارة" فى مجلة الأديب اللبنانية. وفى نفس الشهر نشر مقالا فى مجلة الأدب التى كان يحررها الشيخ أمين الخولي، وكان المقال حول كتاب مترجم عن القصة السيكولوجية.
منذ يوليو 1963 وحتى فبراير 1969 نشر عشرات القصص القصيرة نشرت فى الصحف والمجلات المصرية والعربية، كما نشر قصتين طويلتين، الأولى بعنوان "حكايات موظف كبير جدا" نشرت فى جريدة المحرر اللبنانية عام 1964، والثانية "حكايات موظف صغير جدا"، نشرت فى مجلة "الجمهور الجديد" عام 1965.
كتب ثلاث روايات فى الفترة من 1963 و1968، "رحيل الخريف الدامي" لم تنشر، "محكمة الأيام" لكنه فقد المخطوط أثناء اعتقاله عام 1966، وكذلك "اعتقال المغيب" الذى فقده أيضاً أثناء اعتقاله عام 1966.
صدر أول كتاب له عام 1969، "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" صدر متضمنا خمس قصص قصيرة كتبت كلها بعد هزيمة الجيش المصرى فى سيناء عام 1967. لاقى الكتاب ترحيبا واسعا من القراء والنقاد.
وتتابعت أعماله منذ ذلك الحين وأهمها: "الزينى بركات" قصة طويلة، "وقائع حارة الزعفراني" قصة طويلة، "حكايات الغريب" (مجموعة قصصية)، "الرفـاعي" ( رواية)، "خطط الغيطاني" ( رواية)، "كتاب التجليات" "رسالة فى الصبابة والوجد" (رواية)، "رسالة البصائر فى المصائر" (رواية)، "المصريون والحرب من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر" ( دراسات ومشاهدات)، "نجيب محفوظ يتذكر"، "ملامح القاهرة فى ألف عام"، دفاتر التدوين، و"يومياتى المعلنة" .
حاز جائزة النيل فى الأدب، وهى أرفع جائزة أدبية مصرية تمنحها الدولة، ونال جائزة سلطان العويس، جائزة لورا باتليون الفرنسية لكتاب "التجليات"، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وسام الاستحقاق للآداب والفنون من طبقة فارس، جائزة الصداقة العربية – الفرنسية، جائزة جرينزانا كافور للأدب الاجنبى – ايطاليا.
يتذكر جمال الغيطانى أن أول كتاب قرأه كان "البؤساء" لفيكتور هوجو، وكان رصيف الأزهر ملاذه لاقتناء الكتب القديمة ومنها تعرف على أرسين لوبين ومحفوظ وغيرهما، كان مهتما بالتاريخ وبالأخص الفرعونى وقرأ "سنوحى المصري" لميكا والتاري، ثم عرفت قدماه دار الكتب بباب الخلق، وقد قرأ الترجمات الكاملة التى طبعتها دار اليقظة العربية بدمشق، خاصة للكتاب الروس العظام، تولستوى ، مكسيم جوركي، وقصص تشيكوف، وغيرهم.
ربطته صلة وثيقة بنجيب محفوظ، وعاش معه أجواء خان الخليلي، بين القصرين، السكرية، قصر الشوق، كان يعتبر أنه أول من اكتشف الحارة المصرية.
اهتم الغيطانى بقراءة علم النفس وهو لا ينسى تأثره بكتاب تفسير الأحلام لفرويد، كما اهتم بالفلسفة فى عمر مبكر، وقرأ العديد من الكتابات التأسيسية العالمية.
أما فى التاريخ، فلقد أعجب بموسوعة سليم حسن الفرعونية، وظل مأسورا بالعصر المملوكى الذى يسكن شوارع القاهرة، وبعد هزيمة يونيو1967 أعاد اكتشاف ابن اياس الذى عاش حقبة تاريخية مماثلة عندما كسر العثمانيون جيش مصر فى مرج دابق، وكانت تلك انطلاقته نحو الأدب الفارسى بخصوصيته الأسطورية و تراث المتصوفين المسلمين، كذلك التراث الروحى للأديان المختلفة، مثل الهندوس، والصابئة، والبوذية والعقائد البدائية.
وعن تكنيك السرد، أوضح الغيطانى بحوارات أجريت معه أنه كان دائم البحث عن قالب روائى مستلهم من التراث العربى وليس الغربي، ويعنى ليس التراث المكتوب ولكن الشفهى أيضا الذى استقاه من نشأته الصعيدية. وقد اعتبر أن إميل حبيبى أهم روائى عربى لأنه فعل هذا الشيء باقتدار حينما ابتدع قالبا خاصا فى روايته "الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبى النحس المتشائل" .
كان دائم الإسقاط من واقع رواياته التراثية على حاضرنا المعاش، فهو يقصد البوليس السرى حينما يكتب عن البصاصين والعسس وعالمهم، وهذا ما قدمه بكتابه الممتع "خطط الغيطاني" وفى "حارة الزعفراني" جمع ملفات وتقارير حقيقية عن ذلك العصر، ثم انتقل للإبحار الصوفى بمجموعة التجليات ليسائل الموت والنسيان .
كان الغيطانى يكرس وقته المسائى للقراءة والكتابة الأدبية، ويترك النهار للصحافة، وكان أسلوبه مختلفا فى كل حالة، وهو يتذكر كيف كان ينقل بتأنٍ كتابات المتصوفة الكبار كالتوحيدى والجيلاني، لا لشيء إلا لتشرب سر كتابتهم بهذا الأسلوب، وقد ترك دراسة الفرنسية للتفرغ للغة الصوفية التى نحت من خلالها لغته الخاصة .
كان يعتمد على نظرية "التخييل الذاتي" أو الانطلاق من الذات كمركز للعالم كما كان يقول المتصوف الكبير جلال الدين الرومي، ومن هنا جاءت فكرة "التجليات" والذى بدأه بكتاب "خلسات الكرى" وقال فى مقدمته "ماذا يمكن أن يكون لو أن ما لم يكن كان" وهى مقولة صوفية، وهى انطلاق للخيال ثم جاء دفتر "دنا فتدلى" ويكتب فيه عن القطارات التى تعلق بها فى حياته وكمدخل لفهم الحياة وللعودة للأصول، وفى دفتر "رشحات الحمراء" يكتشف علاقته الخاصة بحبيبته ، ثم تأتى "نوافد النوافذ" ليكتب عن الحياة ، بين الواقع والمتخيل، وأخير «نثار المحو» يعتمد على اصطياد اللحظات المتناثرة التى أفلتت من المحو.
فى "الزينى بركات" و"أوراق شاب عاش قبل ألف عام" كان الغيطانى يعمد لتضفير التراث بالأدب، والاستفادة من العالمين، وكان يستوحى أفكارا من نوادر الجاحظ، والبحث عن الزمن الضائع والجريمة والعقاب وألف ليلة وليلة وغيرها من الملاحم العالمية التى أثرت بوجدانه. وكلاهما به مغامرة بالزمن، فى الأولى قفز من 5 يونيو (حزيران) 1967 الى 5 يونيو 2967 ، وكذلك فى «الزينى بركات» رجع 500 سنة الى الخلف لمعايشة لحظة مماثلة، انا دائما فى حوار مع اللحظة التى تفنى فى محاولة لاقتناصها.
ولقد ظلت مجلة "أخبار الأدب" التى يرأس تحريرها جسرا وحيدا لنشر إبداعات الكتاب العرب بنزاهة وحرية، حيث كان يرى أن الصحف الثقافية تحولت لثلاجة باردة بلا تأثير ومنها "الثقافة الجديدة" و"فصول" و"القاهرة" ، وغاب عنا مفهوم مجلة "المجلة" التى كانت تصدر بجهود ذاتية من مثقفين بالستينيات . ويتذكر بحديثه للصحيفة اللندنية عندما توليت الاشراف على صفحة أخبار الأدب سنة 1985 كانت هناك قائمة بأكثر من 200 اسم ممنوع ذكرها فى الأخبار على رأسها ادوار الخراط، ولذلك قمت بحملة لا للتصنيف، ولا لحجب كاتب بسبب انتمائه الفكرى أو السياسي، وأصبح بعدها نشر هذه الاسماء عاديا. وأعتقد أنه عندما ينتهى دورى سيحسب لى هذا والدور الذى لعبته «أخبار الأدب» فى الصحافة العربية.
أما عن حركة النقد، فرأى الغيطانى أنها مغيبة، فحين كان لدينا لويس عوض ولطيفة الزيات ومحمد مندور، كنا نقرأ عن ميلاد أدباء حقيقيين، وقد بشروا برائعته "أوراق شاب عاش من ألف عام" ، ولكن اليوم نرى النقاد بلا مصداقية عند القراء والمثقفين، والاستثناءات قليلة، ولا تصنع حركة نقدية، والكل مشغول بتمشية المصالح وكسب المال، والدوران بفلك مؤسسات الثقافة البائسة، ورشوة منحة التفرغ ، مضيفا أن وضع مصر الثقافى ممزق والفساد طال المؤسسة الثقافية وهياكلها، وهى آراء جلبت عليه الكثير من المشاكل لكنه تقبلها بصدر رحب .