مسلسل معاوية.. أزمة ثقافية تتجدد في الفكر الأسلامي

لسنا بصدد تحليل للعمل الفني بخاصة انه مازال يُعرض حتى الان ولكن تداعياته الكبيرة اولى بالاهتمام في هذه المرحلة، فبعد ان كانت تلك الاثار التاريخية حكراً على فئات معينة تشتغلها من منطلق التخصص والدراسة اصبح الأن المجتمع يُكون رأيه بذاته ومن خلال قراءاته المختلفة.
حالة النقاش حتى وان كانت لا تليق بالنخبة من المثقفين في مجتمعنا العربي والاسلامي حالياً الا انها تضع الشروط الأساسية في الخطاب التاريخي والديني في المرحلة القادمة. فكم منا يمتلك كتب التراث والتاريخ الأسلامي وتعرض لما يشابه ما يُذكر في الاعمال الفنية؟ وكم من أخطاء تاريخية ومغالطات تستوجب التنظير والتعقيب والنقد؟ ولكن كل هذا لا يمنع وجود عمل فني قائم على رؤية شخصية للكاتب يستطيع توجيه النظر لمناطق جديدة في التاريخ يحاول ملئها بقدر إستطاعته.
مسلسل معاوية وان استطاع في حلقاته الاولى في أثارة الجدل الا انه كشف عن عوار فكري وايدولوجية أصولية متجذرة في العقلية العربية والأسلامية، بداية من المنع في دول بعينها بحجة انها تثير للفتنة الطائفية، حتى لدعوات المنع بحكم ديني نظير تشخيص بعض الشخصيات الدينية.
المنع السياسي جاء من منطلق عدم اثارة القلق بداخل المجتمع كنتيجة لتعميق مبدا الكراهية من خلال النعرات الطائفية والتوجهات الدينية بداخل المجتمع الواحد، فحتى وان كان المنع بقرار سياسي او قانوني بغرض المصلحة الا ان ذلك مجرد إرجاء لمشكلة موجودة قد تطرا في اي وقت لاحق وتتسبب بازمة داخلية، فتفعيل مبدأ الحوار والنقاش المجتمعي افضل كثير من محاولة طمس تلك الوقائع.
اما المنع الديني فهو الازمة الاكبر، فالأتجاة الواحد في العلوم الدينية لا يشبع ولا يغني من جوع، بل وايضاً يوجج لأصولية لم نعهدها من قبل، لتكوين ايدولوجيات أصوليه تستثني كل ما عداها، بل وايضاً تلفظ وترفض الأخر وقد تلجأ في اخر الاحيان إلى التكفير!
معاوية ليس الاول.. أعمال فنية دينية أثارت الجدل
في البداية يكون الرفض، ثم القبول على استحياء، ثم التماهي مع المجتمع والعصر مع وجود نزعة نقدية ذاتية لكل متلقى. لم يكن مسلسل معاوية هو الاول، وبالتالي لن يكون الاخير في فيض من الاحداث المعاصرة التي تستلزم إثارة بعض الاحداث في التاريخ للوقوف على حقيقتها وللنظر إليها من خلال التراث التاريخي والإنساني.
من لاقى مثل تلك الحالة في بدايات عرضه ايضاً مسلسل عمر، والذي اثار حالة من اللغط والأستنكار واحياناً الاحتفاء الديني والتاريخي به، وايضاً مسلسل يوسف الصديق الإيراني الانتاج، والذي اصبح له متابعين في كل الدول العربية وحاز على القبول والثناء على الرغم من بعض الاخطاء التاريخية والدينية به، وهناك ايضاً مسلسل لجعفر الصادق، ولكنه مسلسل محلي ايراني يتم فيه استخدام المرويات الشيعية في التأريخ لآل البيت، وايضاً مسلسل " ممالك النار" الذي وان وضح حقيقة الحكم العثماني الا انه احتفى بالدولة المملوكية في مصر. كل ذلك ناهيك عن الأفلام الدينية الخالصة، او التي تشتبك مع ما هو ديني مثل فيلم "طريد الجنة" لفريد شوقي، وفيلم "الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين واحمد مظهر وغيرهم مما لا يسع المقال لحصرهم، كل تلك الأعمال تمت برواية فنية، ذات بُعد تاريخي، ولا يمكن التعويل عليها بالأستشهاد بها، وهو الامر الذي يلزم صناع العمل الاشارة إليه.
العمل الفني ليس أداة لأستقاء التاريخ
قلنا وكررنا من قبل ان العمل الفني غير خاضع للمنطق او للدين، وبالتالي هو وسيلة تعبيرية للكاتب عن رؤيته للأمور، من خلال عمل إبداعي فني هدفه الأساسي الترفيه، ويجوز ان يحتوى على اكثر من هدف منها المعرفي والسياسي والنقدي والتاريخي وخلافهم.
العمل الفني التاريخي مادام غير توثيقي قام به مجموعة من العلماء والباحثين والمتمرسين من أول كتابته لطريقة عرضه فلا يمكن باي شكل من الأشكال رفضه بأي حجة، لأن ذلك حكر وتقييد لحرية الأبداع المنصوص عليها في القوانين الدولية والمحلية ومواثيق حقوق الانسان.
الفن الديني.. مباح ام مستباح!
العديد من الباحثين والمفكرين والفنانين لهم وجهات نظر حول الفن الديني بشكل عام، تبعاً لأعتقادتهم وأيدولوجياتهم ودينهم ايضاً، فعلى الرغم من تصدر السينما العالمية لأعمال ترفع من شان اليهود – السنة الماضية تم انتاج اكثر من ثلاث افلام تتبع الأيدولوجيا اليهودية لتمريرها – الا ان الرفض المجتمعي هو الاكبر، والمشاهدات تأتي من الفضول لرؤية وجهه النظر الأخرى، ولكن مع ذلك تظل هذه الاعمال وثيقة مستمرة ان رفضها الجيل الحالي فانها تتحول لأيدولوجية للجيل الجديد.
هكذا الحال في الفن الديني الاسلامي، حتى وان اختلفت مناهجهه او استخداماته، فمن ناحية استخداماته فهناك العديد من الاعمال الفنية الدينية في الوطن العربي ترضخ للأستهلاك المحلي، وبخاصة في ايران والدول التي تتبعها أيدولوجيا وسياسياً وثقافياً، وهناك اعمال تنتشر في السياق العالمي، مما يوضح ان الفن نوع من انواع الخطاب، خطاب محلي للأستهلاك، وخطاب عالمي للأستقطاب، وهذا هو جوهر الإشكاليات التي وان كانت مترسخة في كتب التراث الا انها تظهر بجلاء في الأعمال الدينية والتراثية. فالفن هو مرآة الايدولوجية.
وحتى وان كانت بعض الاتجاهات الاسلامية ترى في الفن مقدرة على الأستقطاب وإعادة أحياء للعقيدة والتراث المادي والمعنوي، فأن قيودها اكبر من ذلك بكثير، لا يرها الا من خاض في التجربة الخاصة بهم من الداخل. ولا نعني بذلك ان القيود المفروضة عليهم هي الاكبر، ولكنها اقل بكثير من القيود التي نضعها لانفسنا في أحياء التراث الديني.
لذا فمن الطبيعي ان يلجأ طلبه العلم إلى المراجع الأجنبية للأستقاء منها، نظراً لتنقيح وتصفيه المراجع الموجودة لدينا من الشوائب بحد زعم السلطة القائمة على التراث لدينا، لذا فلا حرية في الأبداع ولا إباحة في تكوين ايدولوجية ذاتية مطلقاً، وذلك ما نطلق عليه الفن الديني المؤسسي.
المضحك في الامر ان التراث لدينا يناقش من الخارج في اعمال فنية ونحن لا، ونحن نرفض مناقشة تراثهم حتى وان كانت بغرض البحث الاكاديمي وكأنه من المحرمات! في تناقض غريب وتباعد مقصود وتخوين مسبق من كل الاطراف تجاه الاخر. لا اعني بذلك ان بعض الاطراف لا تلعب بسوء نية، ولكن يمكن الوصول لتقارب حقيقي ان سمحت المؤسسة الدينية لديهم هم في إجراء تغيير حقيقي لتوحيد الصف العربي والاسلامي.