ماهر مقلد يكتب: رجل من مدينة صور
أقسى لحظات الضعف هى تلك التى ينفطر فيها القلب على فقدان الأمل والغد، المهندس على إسماعيل المسئول الإقليمى لحركة أمل فى إقليم جبل عامل بجنوب لبنان، فقد فى التاسع من نوفمبر الماضى وقبل أيام قليلة من قرار وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل أعز ما فى الدنيا وأغلى ما فيها الابن الوحيد والشقيق اللذين استشهدا فى غارة إسرائيلية وهما من فريق الكشافة الإسلامية الذى يساعد المحتاج والمصاب والجرحى، يومها وقع عليه الخبر الحزين كالصاعقة.. الابن البار الذى كان فى السنة النهائية فى كلية الهندسة تمسك بالبقاء فى مدينة صور يرفض النزوح كما فعل الآلاف لتفادى خطر القصف الغاشم وقال يومها الجملة التى لا تُنسى: ابن المسئول لا يترك المكان. من يعرف المهندس على إسماعيل لا يمكن أن يصنفه على أنه رجل حزبى على الرغم من أنه المسئول الأول عن حزب كبير هو حركة أمل فى إقليم جبل عامل، فهو يتعايش بروح المشاركة مع الجميع يرتبط بالعلاقات مع جميع القوى والطوائف، بسيط شديد التواضع وفى نفس الوقت الحكمة والهيبة.
فى مراسم تشييع نجله الشهيد وشقيقه كما ظهر فى مقاطع الفيديو التى انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى كان حاضرًا بجسده وسط الحضور يرفع المعنويات يحبس الدموع يقاوم لوعة الفراق ومغادرة أحبة القلب لكن روحه هائمة تحلق بعيدًا عن المكان كما لو كانت تعلو فى السماء تلتصق مع أرواح الأحبة تقترب منهم تطمئن عليهم وتدعو لهم.
يومها تضرع للسماء بصوت الخشوع والرضا والتسليم بقدر الله وقدرته يا رب خذ حتى ترضى فى موقف يعكس قوة الإيمان وصبر المؤمن المحتسب، جاء الحضور لمواساته والشد من أزره فى هذه اللحظات التى يعجز الكلام فيها ولا يجوز غير الصمت واحترام جلال المشهد، بقوة معدن الرجل والمسئولية التى يضطلع بها يدرك أن واجبه أن يمنح ويخفف عن كل من يحضر هذا المشهد الصعب وحده يتحمل القسوة ويتجرع الألم، وقال: تركت بين قبر ابنى حسين وقبر شقيقى محمد مسافة لتكون هى قبرى لأننى أتوقع أن أكون شهيدًا فى أى وقت واصفًا الابن والشقيق بأنهما أقوياء ورجال رحلوا فى سبيل شرف أداء الواجب ومهمة مساعدة الآخر خلال مجزرة نفذتها إسرائيل فى دير قانون رأس العين فى مدينة صور، كانت تتقاسم معه الزوجة والأم نفس اللحظات وهى التى فقدت أغلى ما فى الدنيا الابن الحبيب لكنها تمتلك نفس القوة والصلابة والطمأنينة والمستوى الرفيع من الصبر والإيمان وبلاغة التعبير وقالت بعبارات سليمة وسلسة متدفقة تخرج من عمق القلب: ابنى لم يغادر المدينة قناعة منه بأن ابن المسئول لا يغادر. ظل يعمل فى خدمة الناس ومساعدة المحتاج حتى حانت لحظة النهاية والشهادة.
المهندس على إسماعيل رجل من مدينة صور يترك فى النفس أثرا كريما بالطيبة والخبرة فى الحياة والتجارب فى نسج أفضل مسارات العلاقات الإنسانية، فى مدينته هو بين الناس فى كل الأوقات يتفاعل معهم يلبى قدر الاستطاعة ما يطلب منه، ما الذى يمكن أن يخفف عنه هذه الآلام؟ هل كلمات المواساة؟ قطعًا مهما كانت المواساة تظل حبرًا على ورق أو حروفًا مع الهواء، يبقى إذن قدرة الخالق جل علاه فهو الذى ينزل الفاجعة كبيرة وسبحانه مع مرور الوقت يخفف منها يمنح الإنسان نعمة التعايش مع الحياة لا ينسى الأب رحيل الابن ولا الشقيق لكنه يتقبل ذلك بالرضا والجودة فى العلاقة مع الخالق، كما أن الفداء كان من أجل الوطن والأرض.
حالت ظروف الحرب أن نقف إلى جواره فى هذه المحنة. كان لبنان ساحة حرب ومعركة، أتذكر يومها الحوار الذى دار مع النائب والإعلامى أسامة شرشر رئيس تحرير جريدة النهار وهو الصديق المقرب من المهندس على إسماعيل وكان متأثرًا يبحث عن طريقة للتواصل بالمهندس على إسماعيل أو السفر إلى لبنان، غير أن القدر كان حاكمًا. السفر لم يكن خيارا، تمر الأيام لكن المشاعر كما هى على أن تكون فى المستقبل الفرصة وقد من الله عليه وعلى العائلة بنعمة السكينة وأن ينعم الشهيدان وجميع الشهداء بالجنة والرحمة.