ماذا بعد الحرب؟.. شبح الأزمات النفسية يطارد أطفال فلسطين وإحصائية: 90% من الأطفال الفلسطينيين مروا بتجارب نفسية مروعة
تدور الحرب وتدك إسرائيل الأرض تقصف الأخضر واليابس، تقتل الرجال بين أطفالهم، وتهدم البيوت فوق الجميع، لا تفرق بين مدني وعسكري، وحتى الأطفال الذين لا يمكن أن يحملوا أذي قتلتهم، ومن لم تقتله هجرته وشردته ويتمته، وتركته فى العراء بلا بيت يأويه، أو قطعة ملابس تحميه من البرد، ومارست عليه شتى صنوف الأذي وعلى رأسها الأذي النفسي.
ولكن ماذا بعد الحرب؟.. هل يسلم أطفال فلسطين من ما شاهدوه وتعرضوا له؟.. هل يعود الطفل محمد أبو لولي وباسل أبو مرسة والطفلة "هيا" إلى حياتهم الطبيعة أم أن مشاهد الحرب وتداعياتها النفسية ستلازمهم طوال حياتهم؟
عزلة واكتئاب
يقول الدكتور جمال فرويز استشاري علم النفس، أن التأثير النفسي الذي يتعرض له الطفل نتيجة الحرب فى فلسطين، يختلف من طفل لطفل، ومن صعوبة ما عاشه خلال الأحداث، سواء رؤيتة لمناظر صعبة كمناظر أشلاء الجثث، ومشاهد الدم أو هدم بيته، كما أنها تختلف بين المراحل العمرية للطفولة، فما يتأثر به طفل يترواح عمره ما بين 4 سنوات لـ 14 سنة، يختلف من ما يعانيه طفل في الفئة العمرية بين 14 لـ 18 سنة.
وتابع "فرويز"، هناك بعض الاضطرابات التي تظهر علي شخصية الطفل تشير إلى معاناته من مشاكل نفسية، تتمثل فى اضطرابات النوم والطعام، وشعوره بالظلم الشديد ومعاناته من الاكتئاب بكل مظاهره، وفي البداية وأثناء الحرب الدائرة يعاني الطفل من الصدمة، وبعد توقف الحرب تبدأ تظهر هذه السلبيات والمشاكل النفسية بشكل أكبر.
وأوضح فرويز"، في حديثه خاصة لـ "النهار"، أن شخصية الطفل الفلسطيني تتشكل طبقا لما يحدث الأن في قطاع غزة، وتؤثر فيها بشكل كبير الخبرات الحياتية السيئة، المتمثلة فى العنف الذي تعرض له والظلم والتهجير، وهذا ينمي لديه الشعور بالظلم والكراهية والاضطهاد، ومعاداته المجتمع والعالم بسبب صمته على ما يحدث، ولكن البعض يدفعه ذلك إلى التقرب من الله، فمدى استجابة الطفل لما تعرض لها تختلف طبقًا للجينات الوراثية.
وأكد الاستشاري النفسي، أنه بعد ثلاثة أشهر من توقف الحرب تبدأ تظهر أعراض ما بعد الصدمة، من آلام وكوابيس أثناء النوم وأحلام مزعجة، ترافقها أعراض جسمانية تتمثل في تنميل الاطراف وبرودة ومشاكل القولون العصبي، وعند تعرض الطفل لأي موقف بسيط سواء سمع صوت سيارة مرتفع، أو إطلاق نار، يبدأ في استعادة المشاهد المؤلمة التى مر بها، كما أنه من الممكن أن يدخل في حالة من العزلة، ولابد من دعمهم نفسية فى تلك المرحلة لضمان عدم تطور حالته للأسوأ.
ووجه "فرويز" رسالة للعالم طالب فيها بضرورة تقديم الدعم والمساعدات لأطفال فلسطين، وتوفير وجبات الطعام وملابس للشتاء مع أماكن أمنه للنوم، مع توفير ألعاب للأطفال، فهذه الأشياء ضرورية في المرحلة الأولي، مع متابعة الأطفال جيدًا، وتقديم العلاج النفسي إذا تطلب الأمر.
9.6% من أطفال فلسطين تعرضوا لصدمة اعتقال أحد أفراد الأسرة
84.9% من أطفال فلسطين يعانون من اضطرابات نفسية
صدمات وصمود
فيما يقول دكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، أن الطفل الفلسطيني أصبح يسبح في بحر من الدماء، ويواجه شبح الموت، ويعيش وسط صيحات الصراخ والعويل، وأصوات القصف والصواريخ، وهدم البيوت والاعتقالات، والسحل والتعذيب والتهجير القسري، وبات يفتقد الحق في الرعاية الصحية والتعليمية والنفسية والترفيه والأمن، ويتعرض كل ساعة لمواقف غير إنسانية، تجرمها الأعراف والاديان والقوانين التي تنظم حقوق الطفل.
وقال "هندي"، أن تلك الأحداث لها آثار نفسية خطيرة على صحة الطفل، ومن الممكن أن تمتد بعد الحرب ولمدي العمر، وهناك إحصايئة صادرة عن الجهاز المركزي الفلسطيني تحت عنوان أثر الاعتداءات الاسرائيلية علي الطفل الفلسطيني من الناحية النفسية، كشفت عن أن 90% من الأطفال الفلسطينيين لهم تجارب بحوادث سببت لهم صدمة نفسية وهي لها علاقة بممارسات الاحتلال الاسرائيلي، و 21.9% من أطفال فلسطين تعرضوا لصدمة استشهاد أحد أفراد الأسرة، و 9.6% من أطفال فلسطين تعرضوا لصدمة اعتقال أحد أفراد الأسرة، و 84.9% من أطفال فلسطين شعروا باضطرابات نفسية داخل أسرهم.
وتابع الاستشاري النفسي، أن تلك الظروف القاسية التى عاشها أطفال فلسطين، ستؤدي إلى تدمير نفسية عدد كبير من الاطفال، بينما ستنمي لديهم الشعور بالانتماء للوطن، والتمسك بالأرض أكثر فأكثر، وبعيدًا عن الآثار النفسية ستؤدي تلك الحرب إلى حرمان عدد كبير من الأطفال حقهم فى التعليم، وارتفاع معدل عمالة الأطفال، وتشردهم بسبب وفاة معظم العائلات، فضلًا عن تأثيرها علي الصحة العامة مع أعراض الشعور بالقهر وكره المحتل ورفض فكرة السلام بسبب التجربة المريرة التي عاشها، مع متلازمة القلق المفرط والشعور بالتمرد.
وأنهي "هندي" حديثة قائلًا، علي الرغم من ما يحدث إلا أنه يزيد الشعب الفلسطيني تماسك، وخلق لديهم حالة من التحدي والصمود والاصرار، ورفض أي حلول علي حساب أرضهم وعرقهم، وما يحدث من العدوان الإسرائيلي لن يبيد شعب ولن يمحوا الإرادة ولا يضعف العزيمة، فهناك جيل مُصر على البقاء مؤمنً بعدالة قضيته، وحقه فى العودة لداره والتمتع بالأمن على أرضه.
90% من الأطفال الفلسطينيين مروا بتجارب نفسية مروعة
21.9% من أطفال فلسطين تعرضوا لصدمة استشهاد أحد أفراد الأسرة
الحرب أكسبتهم قوة
وتقول الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع، أن الحرب لها آثارها المدمرة، وفى ظل الحرب يفتقر الإنسان لعناصر الحياة الآدمية، ولكن رغم ذلك هى تعطي للإنسان قوة، تدفعه نحو انتزاع حقوقه المسلوبة، البعض ربما يفكر فى الهروب والنجاة بأنفسهم من دمار الحرب، ولكن البعض الأخر لن يترك بيته، لن يترك مسكنه، لن يترك أرضه ولا أحبائه.
وتتابع "خضر"، معروف أن الحروب الطويلة أكسبت الفلسطينين القوة والقدرة على التحمل، وإيمان بعدالة قضيتهم، وأن أرضهم هى عرضهم، ورغم الظروف سيستمرون فى العيش على هذه الأرض، ولن يتركوها، فالحرب جعلت من المجتمع الفلسطيني أكثر تماسكًا وارتباطًا بأرضه، وهذا نستشفه من الأدب الفلسطيني، الشعر والغناء وغيرها من العناصر التى تميزهم.
وتضيف "خضر"، الحرب خلقت الثأر وأنبتته فى قلوب الصغار قبل الكبار، الثأر مما عانوه الثأر من الظلم والقهر والعدوان، الثأر للدماء التى نزفت فى كل مكان، لذلك هم لن يتنازلوا عن حقوقهم، سياخذون حقهم بإيديهم، بدمائهم حتى لو كانت النتيجة هى الاستشهاد، هذا ما زرعته الحرب، وستجنيه إسرائيل.
وتتابع "خضر"، الحروب تخلق قوة كبيرة جدًا داخل الشعوب تقودهم نحو الدفاع عن الوطن، وتقضى على الخوف والجبن، رغم صعوبتها المتمثلة فى انعدام مقومات الحياة كالمأكل والمشرب والملبس، لكن الحقيقة الفلسطينيين أبطال، وسيظلون هكذا.