قاضٍ مصرى: نيّة إسرائيل فى الإبادة الجماعية ثابتة وربما تفكر فى إقامة دعوى مضادة ضد جنوب إفريقيا وإيران وحماس ولا أستبعد أمريكا
تواصل محكمة العدل الدولية في قصر السلام بلاهاي، اليوم، متابعة جلسة الاستماع الثانية العلنية لدفاع إسرائيل في القضية التى رفعتها جنوب أفريقيا ضدها، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 فى قصفها العسكرى المسلح وقتل سكان قطاع غزة وتدمير بنيتها والمنازل والتصفية الجسدية والعرقية والتهجير القسرى لسكانها عقب هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر2023 , التى شغلت بال القانونيين حول العالم برؤاهم عن أهم قضية فى القرن ال 21 التى شغلت بال شعوب العالم أجمع وقاداته , خاصة وأن كلاً من إسرائيل وجنوب أفريقيا قد صادقت على اتفاقية منع الإبادة الجماعية مما يجعل المحاكمة لا تقل سخونة عن نار الحرب الدائرة حتى الاَن .
وفى سبيل الوعى العام العربى نعرض للجزء الثالث للدراسة الدقيقة والمهمة للمفكر والمؤرخ القضائى القاضى المصرى الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة بعنوان :(التدابير المؤقتة فى فكر محكمة العدل الدولية عن جرائم الإبادة الجماعية والسيناريوهات المطروحة فى قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل) ولأن جزء منها يخص الأمن القومى المصرى فيما يتعلق بالتهجير القسرى كجزء من القضية والأمن القومى العربى عامة , يعرض فيها الفقيه المصرى للإجراءات الدولية وتوقعاته حول فكر ومنهج المحكمة الدولية من واقع السوابق القضائية للمحكمة فى قضايا الإبادة الجماعية والتدابير المؤقتة فيها.
ونعرض اليوم، للجزء الثالث من دراسة الفقيه المصرى لقراءة متعمقة فى الفكر الإسرائيلى يخصصه للرد على مزاعم إسرائيل أهمها نفيها لنية الإبادة وحقها فى الدفاع من منظمة إرهابية على حد وصفها والرد على ذلك ,ويطرح تساؤلاً مهما حول مدى مسؤلية أمريكا فى جريمة التواطؤ فى الإبادة وحكم القانون الأمريكى ذاته ,ثم يطرح تساؤلاً عما ستفعله إسرائيل إذا فشلت فى الدفاع .
أولاً : إسرائيل تّدعى حقها فى الدفاع من إرهاب حماس بإبادة شعبها! وهى من جاوزت حدود الدفاع إلى تدمير الفلسطينيين وتهجيرهم قسرياً
يقول الدكتور محمد خفاجى إسرائيل تدافع بشروع حماس كمنظمة إرهابية على حد وصفها لإبادة شعب إسرائيل , ومن حقها الدفاع بركيزة أن " إرهابيي حماس تسللوا إلى إسرائيل وقتلوا وأعدموا وذبحوا واغتصبوا واختطفوا مواطنين إسرائيليين،في محاولة لارتكاب إبادة جماعية". !
والرأى عندى أن إسرائيل جاوزت نطاق وحدود الدفاع عن النفس إلى تدمير الفلسطينيين وتهجيرهم قسرياً , وهو ما أوضحته جنوب إفريقيا بعدد القتلى المرعب والتهجير القسري، والحرمان من الطعام، والقيود المفروضة على الولادات، من خلال الهجمات على المستشفيات، وهى أدلة كافية لاستنتاج نية معقولة للإبادة الجماعية.
ومن اَيات تخبط الموقف الإسرائيلى من قضية جنوب إفريقيا اتهام إسرائيل لها بأنها "تعمل بمثابة الذراع القانوني لحماس " وهو ما قاله ليئور حيات المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية ، رداً على قضية الدولة الإفريقية ضد الدولة اليهودية بشأن الإبادة الجماعية
ثانياً : إسرائيل تنكر عنصر نية الإبادة ! فكيف يمكن إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية ؟
ويؤكد الدكتور محمد خفاجى أن عنصر النية دائما صعب الإثبات لأنه يكشف عن النوايا الدفينة فى أعماق النفس وعادة ما يخفيها مرتكبو جريمة الإبادة , فعادة تخفى الدولة نية ارتكاب الإبادة الجماعية، ومع ذلك يمكن إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية من خلال الأفعال والترسانة العسكرية التى دمرت المدنيين وعدد القتلى والوحشية فى إبادتهم دون رحمة , ومن خلال التصريحات الصريحة التي يدلي بها رؤساء الدول أو مرتكبو الجريمة.
ويضيف قد استقر قضاء محكمة العدل الدولية فى أحكامها بأنه يمكن إثبات النية من وراء الجرائم حتى ولو بدون أقوال صريحة، وأنه يمكن استنتاج النية من الأفعال. ووضعت المحكمة مبدأً لمثل هذا الاستنتاج يتمثل فى التنفيذ المنهجي للجرائم، الذى يعتمد على وجود خطة منهجية لارتكاب الإبادة الجماعية.
ثالثاً : الدليل اليقينى على توافر نية إسرائيل فى الإبادة الجماعية لسكان غزة ثابتة بالأفعال وأقوال نتنياهو ووزرائه وقادة جيشه
ويشير إن تحقيق تنفيذ إبادة شعب يتوقف على توافر النية الخاصة لجريمة الإبادة , وقواعد القانون الدولى تضع عبئًا ثقيلًا للإثبات يصعب الوفاء به من الناحية العملية , بسبب أن الدول والأفراد الذين يخططون لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية يخفون نيتهم سراً ولا يقدمون على الإعلان عنها علنًا.
والرأى عندى أن نية الإبادة متوفرة لدى إسرائيل من خلال جميع الأفعال والترسانة العسكرية التى دمرت بها الحياة قطاع غزة , وأيضاً من التصريحات الخطيرة الصادرة عن كبار المسئولين الإسرائيليين، بما في ذلك منذ بدء إجراءات المحكمة، تكشف عن نية إسرائيل فى ارتكاب الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة .
ويضيف أوردت جنوب أفريقيا أمثلة عديدة على "التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية من قبل مسئولي الدولة الإسرائيلية , بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالتهديدات بجعل غزة غير صالحة للسكن بشكل دائم، والإشارات إلى وصف الفلسطينيين كحيوانات بشرية وهى موثقة في المطالبة. كما تم الاستشهاد بدعوات الوزيرين اليمينيين المتطرفين بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير بالتهجير القسرى وإعادة توطين الفلسطينيين خارج غزة .
والدليل على توافر نية الإبادة الجماعية من جانب إسرائيل تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو - في بيان مطالبة جنوب أفريقيا- والذي يقول :"تذكروا ما فعله عماليق بكم... اقطعوهم وامحوهم من على وجه الأرض"، وتصريح وزير الدفاع يوآف غالانت : "نفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود , كل شيء مغلق, نحن نقاتل حيوانات بشرية " "غزة لن تكون كما كانت-- لقد أطلقت كل القيود " وأيضاً نية الإبادة ثابتة على إسرائيل بأقوال وزراء وأعضاء كنيست من الائتلاف (ايتمار بن جابر، يسرائيل كاتس، بتسلئيل سموتريش، عميحاي إلياهو , وآفي ديختر ونسيم فاتوري وتالي غوتليب وجاليت ديستيل أتابريان وآخرون) إذ أنهم جميعاً يعبرون عن نفس النية الخاصة , فضلاً عن تصريحات قادة الجيش الإسرائيلى وقادة متوسطي الرتب وجنود في الميدان يعبرون عن مشاعر مماثلة أو تتفاخر بأفعال تعكس نهجها في تدمير شعب (مثل الرائد يائير بن دافيد النائب في كتيبة الاحتياط التي تم تصويرها يقول إن وحدته فعلت "في بيت حانون ما فعله شمعون وليفي في مدينة نابلس"، وأن "لا يزال أمامنا كل غزة لنفعلها بها مثل بيت حانون" وغيرها من الأقوايل لا حصر لها يجب أن تكون تحت بصر المحكمة .
وفى داخل إسرائيل نفسها، كتب مسئولون سابقون إلى غالي باهاراف ميارا المدعي العام ، يطلبونه باتخاذ إجراء ضد المسئولين الحكوميين والسياسيين المنتخبين الذين دعوا إلى التطهير العرقى – وهو ما يدحض قول إسرائيل أنهم ليسوا صناع قرار - ومن بين الموقعين على هذه الرسالة، السفير السابق الدكتور ألون ليل، والبروفيسور إيلي بارنافي، وإيلان باروخ، وسوزي بشار. بقولهم : "إن الدعوات الصريحة لارتكاب فظائع ضد ملايين الأشخاص أصبحت، لأول مرة يمكننا أن نتذكرها، جزءًا مشروعًا وعاديًا من الحوار الإسرائيلي".
ويتوقع الدكتور محمد خفاجى أن إسرائيل ستدعي أن الاقتباسات التى ذكرتها جنوب إفريقيا في الدعوى تم إخراجها من سياقها، وأن هؤلاء الأشخاص ليسوا من صناع القرار في إسرائيل،الذى ينحصر فى أعضاء مجلس الوزراء الحربي ورئيس الأركان وكبار القادة في الجيش الإسرائيلي،للدلالة على أن إسرائيل تقاتل حماس فقط، وأنها لا تسعى إلى إيذاء المدنيين الفلسطينيين , وهو قول يجافى الحقيقة وممكن دحضة بتصريحات نتنياهو ذاته وهو على قمة مجلس الوزراء ويترأس كافة المجالس الحربية .
والرأى عندى أن إسرائيل ستدافع عن نفسها بأن تدعى أنها اتبعت قوانين الحرب في حربها , وأنها اتخذت تحقيقات داخلية وإجراءات تأديبية وجنائية ضد المخالفين سوف تصطنعها لنفسها ؛ لتثبت أنها تعمل بحزم على منع ومعاقبة كل فعل مدرج على أنه محظور في اتفاقية الإبادة الجماعية، بدءاً من التحريض وانتهاءً به , ولكن نية الإبادة ثابتة فى حقها من خلال الأفعال والأقوال لا فكاك منها بعد أن أقبضت عليها .
رابعاً : لا أستبعد إدانة أمريكا بالتواطؤ فى الإبادة الجماعية وفقا للاتفاقية والقانون الأمريكى يحظر المساعدات العسكرية فى انتهاكات الإبادة وهناك دعوى بكاليفورنيا تتهمها بالتواطؤ
ويذكر الدكتور محمد خفاجى لا أستبعد إدانة أمريكا بالتواطؤ فى الإبادة الجماعية وفقا للمادة الثالثة فقرة ج من اتفاقية منع الإبادة الجماعية التى تنص على أنه " يعاقب على الأفعال التالية:( أ ) الإبادة الجماعية.(ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.(ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.(د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.(هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية
ويضيف اَية دقة رأينا أنه فى 13 نوفمبر الماضى أقام مركز الحقوق الدستورية غير الربحي دعوى قضائية في المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الشمالية من كاليفورنيا نيابة عن منظمتين فلسطينيتين لحقوق الإنسان، الحركة الدولية للدفاع عن الأطفال - فلسطين ومؤسسة الحق، والعديد من سكان غزة ضد الرئيس جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن , تركز على تواطؤ الولايات المتحدة في أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل , على سند من أن بايدن وبلينكن وأوستن فشلوا في منع الإبادة الجماعية في غزة، وبالتالي انتهكوا اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 طالبين من المحكمة منع أمريكا من تقديم المزيد من الأموال والأسلحة وغيرها من المساعدات العسكرية لإسرائيل ومنعها من عرقلة محاولات المجتمع الدولي لتنفيذ وقف إطلاق النار.
ويشير لا أستبعد أن تتناول محكمة العدل الدولية شرعية المساعدة المالية والعسكرية المستمرة من أمريكا لإسرائيل التى يحظرها القانون الأمريكى ذاته إذا كانت تستخدم للإبادة فى سبيل بحثها الموضوعى عن الفاعل والشريك والمحرض والتآمر والشروع فى جريمة الإبادة , علماً بأن القانون الأمريكي المعروف باسم قانون ليهي يحظر تقديم المساعدة العسكرية لقوات الأمن الأجنبية عندما تتوفر معلومات موثوقة تشير إلى تورط تلك الوحدة في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان , كما يعتبر القانون الأمريكي الإبادة الجماعية، وكذلك التحريض على الإبادة الجماعية جريمة جنائية خاصة وأن الدعم المالي والعسكري الأمريكي لإسرائيل ينطوي على مجموعة من المحظورات القانونية المحلية الأخرى الأمر الذى أدى باستقالة جوش بول فى أكتوبر 2023 المسئول بوزارة الخارجية، من المكتب الذي يشرف على عمليات نقل الأسلحة إلى الدول الأجنبية، باعتراضه على المساعدة العسكرية التي تقدمها الإدارة الأمريكية لإسرائيل.
وأتوقع فى حالة إدانة إسرائيل أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست الدولة الوحيدة التي ستواجه مشكلة فى القضية عند نظر الناحية الموضوعية بل سيشمل دولاً أخرى بسبب التشارك فى صنع أدوات الإبادة الجماعية بطريق المساعدة .
وأشارت قضية جنوب إفريقيا بالإضافة إلى انتهاكات إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية , إلى تواطؤ الحكومات الأخرى والأهم بالطبع دور الولايات المتحدة في تمويل وتسليح وحماية إسرائيل أثناء قيامها بأعمال الإبادة الجماعية على الرغم من أن أمريكا دولة طرفاً في اتفاقية الإبادة الجماعية، وهى ملزمة بالعمل على منع أو وقف الإبادة الجماعية , إلا أنها فشلت في الوفاء بالتزاماتها بالمنع , بل أقدمت على المنح , بالدعم الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي والدبلوماسي لإسرائيل أثناء تورطها في فظائعها الجماعية في غزة.
وبالتالى فإن الولايات المتحدة الأمريكية انتكهت التزاماتها القانونية وتقاعست عن مواجهة الإبادة الجماعية وارتكبت جريمة التواطؤ المباشروهي جريمة مستقلة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية .
خامساً : إذا فشلت إسرائيل فى الدفاع ربما تفكر فى إقامة دعوى مضادة ضد جنوب إفريقيا وإيران وحماس تتهمهم بإبادة إسرائيل!
ويذكر إذا فشلت إسرائيل فى الدفاع للرد على القضية التى قدمتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد إسرائيل بعد اتهامها بـ"الإبادة الجماعية" فإن إسرائيل ربما تفكر فى رفع دعوى مضادة ضد جنوب أفريقيا وإيران وحماس , وفق ما أعلنه مصدر سياسي بأن إسرائيل تدرس مقاضاة إيران وحماس بتهمة الإبادة الجماعية أيضاً أى ذات الاتهام المنسوب إليها ، وفي الوقت نفسه جنوب أفريقيا بتهمة "دعم منظمة إرهابية".
وعلى الرغم من أن حماس ليست عضواً في اتفاقية منع الإبادة الجماعية ، التي أنشئت على أساسها محكمة العدل الدولية ولا تتمتع بوصف الدولة العضو ولا تعتبر شخصاً من أشخاص القانون الدولى , إلا أن إسرائيل تدرس ما إذا كان من الممكن قانونيا على مستوى التقاضى الدولى مقاضاتها على أنها منظمة إرهابية على حد وصفها أم لا ؟