في اطار احتفاء النهار بالمفكرين والمثقفين والادباء
”النهار”تواصل الحوار مع الناقد والباحث د.السيد رشاد برى
- تذويب الشخصية الوطنية هو الوجه الشرير لثقافة مابعد العولمة
- الإبداع الرقمى نتاج منطقى لحقبة التحول إلى الذكاء الاصطناعى
- تهميش المثقف لايعفيه من مسؤلياته تجاه مجتمعه
- الاقتصاد الإبداعى يتيح لثقافتنا التحول من " المجرد " إلى "العملى "
- النص النقدى منطلق إبداعى آخر..
- الشللية وراء الهيمنة الثقافية
- القصيدة الليبية أثارت اهتمامى..
- العداء بين وسائل الاتصال مُفتعل ..ونحتاج لإستراتيجية إعلامية متكاملة
- الحوار الناجح لايكون أبدًابين طرفين متماثلين بل متكاملين
- ملايين العرب إما غرقى فى بحار الدنيا أو منتهكين فى بلاد المنافى
- مسئوليةالإعلام تحويل"المواطن "إلى "مؤسسة" ليصبح قادراً على بناء كل شئ
-- "دافنشى"وراء عشقى للفن التشكيلى ..وتؤرقنى بشدة عشوائية الشوارع
فى الجزء الثانى من الحوار.. يمتعنا المفكر والباحث الكبير والشاعر الدكتور السيد رشاد والذي يعد امتدادا طبيعيا وخير وريث لعصر عمالقة الادب والفكر والثقافة العربية الاصيلة فنجد كتاباته ودواوينه الشعرية والادبية امتدادا لجيل العظماء فهو تلميذ مباشر لجمال حمدان وعبد الوهاب المسيري وعبد المنعم تليمة وكمال الجويلي وعز الدين نجيب وغيرهم ويتنقل بنا المفكر والناقد والباحث د.السيد رشاد برى، بين فسيفساء تشع بألوان متعددة من العطاء الفكرى والنقدى والثقافى، سواء عبر ماقدمه للمكتبة العربية من نحو ستة وعشرين مؤلفًا فى مختلف مجالات المعرفة،أم من خلال عشرات الدراسات وأوراق العمل والندوات والمقالات والبرامج الإعلامية..هنا نناقش معه عددًا من القضايا الإبداعية والفكرية التى تشكل فى معظمها أسئلة خاصة جدًا تبحث عن إجابات أكثرخصوصية وحسمًا حول المشهد الثقافى المصرى والعربى.
- ماطبيعة ممارستك كمبدع للكتابة النقدية وكل منهما يتطلب ذهنية مختلفة ؟
**هناك دائما نوع من الجدل والتحاورداخلى بين المبدع والناقد،والتحاورالناجح لايكون أبدا بين متماثلين،بل بين متكاملين،فإذا كان الإبداع فى أحد مفاهيمه:هو رؤية مفتوحة،محلقة، بلا قيود،لانهائية بلاحدود، لكل معطيات ودلالات ومفردات الوجود؛وفى الوقت نفسه هو أيضاً خلاصة الحياة وتجسيد لحركتها وطقوسها ومعانيها ومنطلقاتها..، فإن النقد،فى تصورى،هومنطلق إبداعى آخر، يضيف إلى النص من خلال قراءة علاقاته الداخلية، واكتشاف جوهرها،ومن ثم الوصول إلى أفكارٍ ورؤى ومعانٍ جديدة،لم تعبرعنها بنية أومعمار هذا النص الشكلى الخارجى بشكل صريح،وذلك هو المنهج الذى أنحاز إليه أنا شخصيا فى قراءاتى، ورؤاى،واجتهاداتى النقدية،
إيمانا بأن النقد ليس مجرد مجازات لغوية ترتفع على النص /الحياة،لكنه كتابة إبداعية موازية تشتبك مع النص،وتتقاطع مع الحياة،ولهذا يجب نقدياً أن نترك الفرصة لكل التيارات الإبداعية لتعبر عن نفسها،ولو حتى من منطلق حق التجريب وحده.
رؤية نقدية
- صدرلك كتاب نقدى هو :"الصوت والصدى- قراءة فى المشهد الابداعى"، ما الرؤية النقدية التى يحملها هذا الكتاب ؟
**هناك أسئلة عديدة تبحث عن إجابات حاسمة موجهة للمشهد النقدى فى مصر حول التغريب الذاتى- الداخلى، واستبعاد المواهب الجادة من قبل بعض "الشلل النقدية – الإبداعية المهيمنة لسبب أو لآخر"، واختفاء القيمة الإبداعية لصالح الضجيج والفوضى والضحالة والإنتقائية،والإقصائية، وغيرها من الأوراق المختلطة فى المشهد النقدى،فضلاًعن الاعتبارات الناجمة عن الشكوى المزمنة فى المشهد الإبداعى والنقدى على حد سواء، من وجود هوة بين شباب المبدعين وشيوخ النقد,وكيف أن تجربة المبدعين الجدد عجزت عن أن تفرز تياراً نقدياً من ذات التجربة، إضافة إلى الاهتمام الذاتى بتسليط الضوء على "أصوات" إبداعية فى الشعر والقصة والرواية لم تأخذ حقها من التناول النقدى، وتاهت لتصبح مثل" الصدى" فى زحام ما أطلق عليه تأدباً :"قانون العلاقات العامة،وتبادل المصالح" الذى بات يحكم جُلّ المشهدين: النقدى والإبداعى،بل الثقافى فى عمومه؛ لهذا أردت أن يأتى هذا الكتاب محاولة لتَمَثُل الخريطة الحقيقية للمشهد الإبداعى الراهن من خلال الاقتراب من تجارب مجموعة من الشعراء والقصاصين والروائيين يمثلون مختلف المدارس والاتجاهات الأدبية فى مصر،وقد ضم الكتاب فى محوره الأول قراءات في ثمانٍ مجموعات شعرية، لشعراء متميزين حتى وإن غابت عن بعضهم الشهرة والذيوع من أبرزهم: أحمد خالد وفارس خضرونجاة على ...وغيرهم،وضم محوره الثانى ست مجموعات قصصية من أبرز قصاصيها محمد بركة،ود.كرمة سامى، ووحيد الطويلة،وطارق عبدالبارى.. والمحورالأخير تناول مجموعة من الروايات لمبدعين مهمين من بينهم : فؤاد مرسى،وسعد القرش،وميرال الطحاوى ..وهى أعمال تمثل فى مجملها مختلف ألوان الطيف الإبداعى فيما يعتمدها خيط واحد هوأنها كلها لأسماء تعتصم بالإبداع وحده،وهى تشبه خيوط قوس قُزح وسط ركامات من سحب "الشللية والتربيطات" وتجمعات أصحاب المصالح .
ـ إذن هو كتاب في مواجهة "الشللية"النقدية ؟
** "الشللية"النقدية وجه آخر للهيمنة الثقافية،وفى معظم مدارات المشهدالنقدى العربى،لايزال معظم نقاده،بخاصة الكبار، يتعاملون مع المبدعين الشباب،إما بثقافات وأُطر ورؤى محدودة غربت شمسها، وولى زمانها، لكنهم يرفضون تصديق ذلك، بل يصرون على تطبيق تصوراتهم القديمة هذه على نصوص حداثية،وحتى ما بعد حداثية تجاوزتها بمراحل،وإما يتعاملون مع الإبداعات الشابة من منطلق المثل الشائع (الإنسان عدو مايجهل) وتكون النتيجة إطلاق أحكام قيمة،واتهامات عامة بأن المبدعين الشباب سطحيون،وعبثيون،ومخربون للغة والإبداع،وجاحدون للآباء الثقافيين،وخارجون عن السياق القيمى العام.. وهي اتهامات تثير الرثاء ليس أكثر، والنتيجة مشهد ثقافى تحكم معظم فعالياته "الشللية"والرضوخ لأصحاب الصوت العالى والمناصب الثقافية والكراسى النقدية والمنابر الإعلامية أياً كانت قيمة مايطرحونه،قبل احترام النتاج والمنجز،والقيمة الإبداعية والنقدية المضافة الحقيقية، وحين أفكر في الكتابة عن الإبداع والمبدعين؛ فإننى لا أهدف إلى التنظير النقدى بقدر ما أريد التخلى عن نرجسية المبدع التى غلّفت الحياة الأدبية فى حقبتها الراهنة، وحولتها مفاهيم "الشللية "إلى جزر من المرايا المكسورة، تعجز عن إكمال الناقص،ولاتطرح سوى ذلك الغامض السطحى،أو البهلوانى العبثى، لتظل الحركة قابعة فوق مقاعدها المتحركة، أو تسير بساقٍ واحدة فى أحسن الأحوال، وهو ما أفرز نصوصاً فى معظمها طاردة للمتلقى،أو مكبلة بِشِرَاك التقليد واجترار منجز السابقين،أوتتوسل بالغث والساذج من تجارب الحداثة وما بعدها، بعيداً عن الفهم والوعى الحقيقيين لجوهرها العميق،وإن ظلت هناك دائماً استثناءات إبداعية ونقدية محدودة،ومضيئة، تحفظ ماء وجه الحركة الإبداعية!
ـ لم تبدأ كتابك بإهداء كما هو المألوف، بل بدأته بنداء إلى المبدعين الحقيقيين القابضين على جمرات المبدأ في زمن الزيف بينما جعلت الإهداءات في نهاية الكتاب - لماذا ؟
**كلمات المفتتح تعبرعن واقع يعيشه المبدعون والنقاد والمجتمع الثقافى العربى كله،وهذا النداء يؤكد على فكرة أن المبدعين الشباب لديهم من الوعى مايستطيعون من خلاله ليس فقط تغييرهذا الواقع القابض، بل تغييرالعالم كله من حولهم،وأن الإصلاح لن يحدث مادامت هناك شروخ داخل أوساط المثقفين أنفسهم الذين هم فى النهاية عقل وضميرهذا الوطن وتلك الأمة،أما جعل الإهداءات فى آخرالكتاب فجاءت باعتبارها أمرًا خاصاً لم أرد إقحامه على القارىء .
- وماذا عن أحدث إصداراتك النقدية ؟
**أستعد لإصداركتابى النقدى الجديد وهو بعنوان "تجليات القصيدة الليبية "وفيه اقتربت عبر مجموعة من الرؤى والقراءات والتحليلات النقدية من العالم الشعرى لعدد من مبدعى القصيدة الليبية،مثل الشاعر سالم العوكلى الذى تتميز قصائده بإزالة الفواصل والحواجز بين مفردات القصيدة وعوالمها اللامرئية،وأيضا الشاعرة إخلاص الزعيرى بقصيدتها شديدة التكثيف والدلالة،وأدهشتنى الشاعرية المتفردة فائقة الخصوصية للشاعرة حواء القمودى،ولاأدرى كيف لم تأخذ مكانتها التى تليق بتفرد إبداعهاعلى خارطة الشعر العربى،و كذلك لفت نظرى نقديا هذا التوظيف الإبداعى للبعد البصرى فى قصائد الشاعرة سعاد يونس،كما أثار اهتمامى هذا القاموس الشعرى الخاص فى قصائد الشاعرة مريم سلامة،كذلك أعجبنى ذلك التحريض على التأمل وكسرالمألوف فى قصائد الشاعرحسام الوحيشى،وتلك الإيقاعات المفرحة فى قصائدالشاعرعبد الفتاح ميلود،وبقبض الشاعرة سميرة البوزيدى على جغرافية اللحظة فى تماهى صرف بين الزمان والمكان والشاعرية معاً،كما يضم الكتاب دراسة مطولة عن الشاعرية المبهرة،شاهقة الفرادة للشاعرالكبير أحمد بللو.
مشروع عربى
- كيف ترى تأثير الحروب والقلاقل والانكسارات العامة على المبدعين والمثقفين العرب عموما؟
** فى العقود الثلاثة الأخيرة،بخاصة عقب ثورات ما يسمى بالربيع العربى،استيقظ عالمنا العربى على متاهات من الحروب والمذابح والانكسارات والخيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،وتشريد وتهجير ملايين العرب من بيوتهم فى سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال والسودان..ليقبعوا غرقى فى بحارالدنيا،أو جوعى منهكين فى مخيمات اللاجئين على هامش الحياة،أوأسرى يواجهون فى كل لحظة محاولة لفظهم أو انتهاك حقوقهم فى بلاد المنافى والصقيع بالقارات الست.. تلك الأحداث التى زلزلت – ومازالت تزلزل - بقسوة وعنف معظم ثوابت عالمنا العربى وفى مقدمتها الثوابت الثقافية، حقا كانت هناك بعض بقع الضوء المتناثرة هنا وهناك التى تشكل محاولة للانعتاق والنهوض لكنها - مع الأسف- فشلت،على تكرارها، فى أن تصبح مشروعا عربيا ثقافيا حضاريا متكاملا، لكن من المؤكد أن الأحداث الكبرى تؤدى حتما إلى رؤى وصياغات وتطورات تعيد هيكلة أو تعدل،بل ربما تغير جزئيا أوكليا حياة المجتمعات البشرية،كل حسب دوائرها الأقوى أوالأضعف داخل فسيفساء المجتمع الإنسانى كله وفى القلب منه مجتمعنا العربى صاحب النصيب الوافر والعاصف من هذه التغيرات..وإذاكان المبدعون ومن بينهم الشعراء هم القطاع القائد المنوط بهم ،بالطبع مع النخب المهمة الأخرى،الأخذ بيد مجتمعاتهم ،وسرعة المبادرة بشأن هذا التطور، دورا،ورسالة،ومسئولية،وإذا كان كل تطور سيفرض- بشكل أو بآخر- ضوابطه وقواعده، فإن السؤال الأكتر أهمية وإلحاحا فى أن واحد الآن هو:هل نجح الشعراء ،مع غيرهم من المبدعين العرب، فى طرح أسئلة مجتمعاتهم وقضاياهم وأفكارهم الخاصة بما يشكل رؤية إبداعية تتفاعل مع ماحدث وتنغمس فيه وتعيد صياغته وإنتاج تداعياته برؤية جديدة يمكن
- بل يجب - أن تساعد،تلك الرؤية،مجتمعها العربى سواء فى مكوناته الخاصة أم مكونه الجمعى الواحد على تنوع مساراته ومكوناته وروافده، لكى يحدد احتياجاته الحقيقية بموضوعية وتجرد وشفافية ونجاعة، وواقعية،ووطنية، فيكتب له النجاح سواء فى التعاطى مع التحديات التى تفرضها الأحداث الكبرى التى وقعت،أم ينتظرأن تقع مستقبلاً،مهما كانت، وكيفما تنوعت وتعددت،وبخاصة أن بعضها يمثل خطراًغير مسبوق، يهدد حتى وجود الأمة العربية ذاتها.
- هل وضع والمبدعون استشرافاً كاشفاً لمشروع ثقافى قادرعلى مواجهة مرحلة ما بعد هذه الأحداث الكبرى؟
**الحقيقة أن المشهد الإبداعى العربى بكل فعالياته ومقوماته يؤكد أنه مازال بعيداً كثيرأ،وعاجزاً جداً عن القيام بهذه المهمة الكبرى..ولايزال يرى هذه الأحداث بعين طائر يحلق من أعلى،وينظرعاجزاً أو مترفعاً من بعيد،مع كل الاحترام لبعض المحاولات والتجارب هنا وهناك،التى تظل أصواتاً منفردة،لاتستطيع تشكيل هذه الرؤية أوطرح تلك القضايا بالصورة المرجوة لمواجهة الواقع الجديد بتطوراته وتنظيماته، ومتطلباته، وتحدياته،ومتغيراته،ومن ثم تحديد احتياجاته على المستويين الإجرائى للراهن،والإستراتيجى للمقبل،للنجاةٍ بأمةٍ تقف عزلاء على حافة الهاوية.
- نقديا كيف ترى تأثيرهذه الأحداث الكبرى فنيا على القصيدة العربية ؟
** هو لاشك تأثير واضح بحكم طبيعة هذه الأحداث،لكن هذا التأثير لم يكتمل رصده أو توصيفه أو سبر كنهه فنيا ورؤيويا حتى الآن سواء إبداعياً،أم نقدياً، أوحتى أكاديمياً،ربما لأن هذا التأثير ذاته لم يكتمل بعد. لكن بالطبع يمكن رصد بعض ملامح هذا التأثيرفى تماهى "أنا "شعراء هذه المرحلة وذواتهم مع أماكنهم وأزمنتهم بالذات من خلال "القصيدة الرقمية"،عبر شبكة عنكبوتية، تتقاطع فيها المسارات وتتشابك وسط عوالم الشعر المتداخلة والمتراكبة والمتضاربة بعضها بعضاً.
على صعيد الشكل لاتزال القصيدة الرقمية ومن قبلها قصيدة النثر تطرح غالبا- على صعيدى الإبداعا والنقد- أسئلة الشكل المضمر فى القصيدة الحديثة، وهى أسئلة تقود إلى جدل الثقافات، ومستوى استجابة الخصائص الأسلوبية،والحقيقة أن قصيدة مابعد الأحداث الكبرى التى أشرت إليها.. لا تنطلق من التضاد ولا التناقض ولا هى علاقة تراكمية للنفى، وإنما هى علاقة تفاعلية داخل الشعر ذاته، نستطيع أن نقول إنها نوع من الشكل ناجم عن هندسة جينية إبداعيةجديدة.
أما عن المضمون وهو التأثير الأهم والأوضح، فيمكن القول:إن القصيدة العربية الراهنة فى معظمها قصيدة العالم الواحدى المنغلق،ربما بتأثير تلك الأحداث الكبرى خصوصا مع تزامنها مع ثورة الذكاء الاصطناعى وسعيه المتسارع نحو السيطرة على مقدرات هذا الكوكب،أيضا من أبرز التأثيرات على مستوى مضامين الشعر العربى، اتسام معظم قصائد ما بعد الأحداث الكبرى باللا مكانية،واللا زمانية،وهى سمة مرتبطة بسابقتها، حيث تتعامل القصيدة مع عالمها الواحدى حقيقياً كان أم افتراضياً،أسطورياً أو حتى معملياً..، تتعامل معه على أنه "كتلة إبداعية " بذاتها بلازمانية ولامكانية تؤطرها..وهى قصيدة يطغى السرد على نصوصها،وتتجنب الاستطرادات والإيضاحات،ولاوقت لديها للهوامش أوالشروح،وهى قصيدة تعيش الداخل الإنسانى بكل تهاويمه،وعبثيته، وحكمته، وصوفيته، وأسطوريته،بامتياز، ومن ثم تنحو إلى حشد التفاصيل على شكل سبائك شعرية دون اهتمام كبير بالشكل أو الجماليات اللغوية،أوالفنية،أوالأطر،والمحددات، بقدر الاهتمام بتفكيك هذه السبائك إلى ذراتها الأولى،ومن ثم منحها قدرة ما على الاختراق،لكن عليها منفردة البحث عن مسام وتشققات وأخاديد تتشربها أو تتسرب إليها على صعيدالتلقى،ومن خلال هذه التشققات،وعبر تلك المسام تمتزج ذات الشاعر بالآخر(الآخرين- العالم- الطبيعة - الكون- الأحلام- القضايا ...)،مما يجعل هذه القصيدة أقرب إلى مشهد دائرى بلا بداية ولانهاية،هى تشبه لقطات، متتابعة،متداخلة، متقاطعة،متوازية، متشابكة لشاعريبدو مستلبا أمام كل شئ ..بداية من انكساراته العامة وأزماته المجتمعية،وتحدياته التقنية،وتطلعاته الكونية،وحتى نزواته وتصوراته وتشققاته الذاتية.
فيما يخص التأثيرعلىاللغة الشعرية،فهى قصيدة تبحث عن لغتها الجديدة،وهى لغة لم تتضح ملامحها حتى الآن، وإن كانت فى معظمها تبحث عن الإدهاش البصرى مستفيدة من تقنيات السرد السينمائى،ومعطيات الفن التشكيلى،وحتى فنون الإنفوجرافيك الرقمية،وهو أمر بدهى فى ظل تداخل الوسائط والأجناس الفنية داخل هذه القصيدة،وهى قصيدة لغوياً تفاعلية بامتياز، وفى المجمل تسعى إلى إحداث نقلة شعرية خاصة،واكتشاف شاعرية مغايرة،وهو سعى مشروع، لكن يبقى فقط على تلك القصيدة أن تقتنص هذه اللحظة الفارقة التى تعيشها أمتنا العربية الآن على جميع الأصعدة والمستويات:السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،فهذه اللحظة فضلاً عن كونها لحظية مصيرية فى مسيرة أمتنا،فهى لحظة شعرية بكل المقاييس،لأنها لحظة توتر جماعى،وأيضا أمل جماعى فى الآن ذاته،وإذا كان التوتر نتاجاً طبيعياً لمعارك توزيع الأدواروالصراعات على المواقع، والضجيج السياسى،
والتوحش الاقتصادى، والخلل الاجتماعى،والتراجع العلمى والثقافى والحضارى، والتضليل الإعلامى بأخطائه وخطاياه،فإن الأمل يبقى رهناً بالإبداع،وفى قلبه الشعر
، ليساعد أمته العربية،لكى تغادرولو قليلاً، مقاعدها المتحركة..
- فى الإطار ذاته كيف ترى تأثير جائحة عالمية يراها هذا الجيل لأول مرة مثل"كورونا"على المشهد الثقافى فى مجمله ؟
** كما أقول دائماً: "الأشياء والأحداث والقضايا تبدأ وتنتهى بالثقافة "..من هنا فمن المؤكد أن ظرفاًاستثنائياً مرت به مصر والمنطقة العربية والعالم كله"مثل جائحة كورونا" أدى حتما إلى تغيير ثقافة المجتمع،وقد سبق أن رصد لنا عشرات الأدباء فى روايات أدبىة،وملاحم شعرية تأثيرات الأوبئة الجذرية التى يغير ربما إلى الأبد،ثقافات المجتمعات التى تلم بها هذه الأوبئة، كما رأينا مثلًا فى رائعة ماركيز"الحب فى زمن الكوليرا"،ورواية"الطاعون" لألبير كامو التى تتناول تداعيات هذا الوباء القاتل على إحدى قرى الجزائر،وأيضا رواية"حصان شاحب.. فارس شاحب" للكاتبة الأمريكية كاثرين آن بورتر، عن الخراب الذي خلّفته "الأنفلونزا الإسبانية،وهى بالمناسبة جائحة تشبه "كورونا "فى سمات كثيرة،وهناك حديثاً رواية "عام الطوفان"( 2009) التى تنبأت فيها الكاتبة الكندية مارغريت آتوود، بانتشار وباء عالمى يهدد بفناء الإنسانية ..، من هنا أن تداعيات "كورونا "سوف تلهم حتماً المبدعين فى كل المجالات بأعمال إبداعية كثيرةبخاصة فى المستقبل ،لكن الأهم هوالتأثيرعلى ميكانيزم المشهدالثقافى بكل فعالياته وتجلياته الذى أصبح معتمداً- تقريباً- فى كثيرمن الفعاليات،والندوات،والورش،والعروض الثقافية والإبداعية والفنية ،والمؤتمرات،والأمسيات والملتقيات على التقنية الرقمية، وتوظيف تكنولوجيا الواقع الافتراضى بمختلف وسائطها ووسائلها، لكن التحدى الأخطر- فى تصورى- حتى من "جائحة كورونا"،التى تحولت فى نهاية المطاف إلى مرض موسمى يشبه الإنفلونزا، هوتحديات مرحلة مابعد العولمة التى نمر بمقدماتها الآن فى مصر وعالمنا العربى ،حيث سيادة الذكاء الاصطناعى بقيمه وثقافته،ولعل من أخطرتداعياته "تذويب شخصية،ومن ثم هوية،الفردالمواطن،
وبالتبعية الدولة الوطنية من ثَمّ المجتمع العربى كله،فيما يعرف بالشخصية الكونية الموحدة ،هذا الوجه الثقافى الشرير الذى يحول إنسان تلك المرحلة إلى"واحد"بذاته
متخليًا عن انتماءاته إلا لذاته،ولبعض معطيات بعينها من نتاج هذه السيادة،وهو ما يأتى غالباً على حساب ولاءاته المجتمعية الأخرى،هذا النوع القاسى من التحديات والتداعيات التى تواجه الإنسان المصرى والعربى ومجتمعه معاً، لايمكن مواجهته إلا عبر"ثقافة"، قادرة على التعاطى بنجاح وإيجابية مع ما تفرضه من تداعيات وتحديات ومسئوليات جسيمة وخطيرة لن تترك شيئاً، ولن تشفق على أحد تغافل أو تقاعس عن مواجهة تحدياته،وبطرح مكونات هذه"الثقافة" أسئلةً صحيحة، سوف يحصل مجتمعنا العربى على إجابات صحيحة، أوعلى الأقل يقطع خطوات فى الاتجاه الصحيح، لتحقيق أهداف الرؤية الثقافية الجديدة ،التى تحتاج بلا جدال إلى إستراتيجيات،وخطط،وبرامج متطورة،وجريئة قوامها الاستثمارفى البشرباعتباره قضية العرب الأولى وسلاح نجاحهم الأهم ..فماذا تفيد كل رؤى التطورالإبداعى إذا كنت مجتمعاً تصرعلى التعامل مع معطيات غير تقليدية بكل المقاييس، بنهج وأساليب وأدوات تقليدية تخضع لقيود السائد والقديم،وخطوط متوارثة لايمكن تجاوزها،فكيف يمكن حل مشكلات قديمة بأفكارقديمة،المسألة "الاختيار" قبل "القرار"، لهذا فإن ظروف "المشهد الثقافى"الراهن، تتطلب تطبيق سياسات ورؤى وإجراءات جديدة، تواكب التغيرات المفاجئة والمتسارعة التى فرضتها تداعيات "الوباء"حتى مع دخوله مرحلة الانتهاء،أو الاستئناس،وفى مقدمتها صنع مراجعة جادة وواعية لمعطيات وتداعيات هذا الفكر التقليدى السائد لمفهوم الإبداع فى عالمنا العربى بكل صراعاته ومغانمه وانحيازاته وإقصاءاته ..، وصولاً إلى التحول من " المجرد " إلى "العملى "،ومن" الفكرة "إلى "المنتج الإبداعى الفاعل والمؤثر والمواكب"، ليسود مفهوم جديد هو ثقافة الإنتاج الإبداعى والعمل الابتكارى،وهذا يتطلب بدوره - كما قلت - دفع الكفاءات الخلاّقة المبتكرة نحودائرة التأثير، وخلق مناخ عادل ومتكافئ يساعد على النجاح وتحقيق القيمة المضافة التى تغير مصائر الأفراد والأمم، وترسم ملامح و صورة مستقبل التطور المنشود من هذه الرؤية الجديدة،وهو ما يفرض أيضا ضرورة إحداث تغيرفى نوعية بعض المُدخلات الأساسية لتطوير رأس المال الفكرى، والموارد البشرية اللازمة، لتحقيق أهداف الرؤية الجديدة لما بعد الوباء، ومن هنا فليس مدخل أمامنا لتحقيق تلك الرؤية إلا أن" نتعلم " كيف نكون " مبدعين".
- أراك تلمح إلى نفى وتهميش المثقف فى مجتمعاتنا العربية..وهوأمرحقيقى فى جانب منه لكن أين مسئولية هذا المثقف ؟
**إن مجتمعاتنا العربية تدفع كلها الآن ثمن استبعاد ونفى الفكر والمفكرين الحقيقيين من دائرةالتأثيرالإيجابى الفاعل فى حياتها، لا لشىء إلا عقابًا لهذا المبدع على رؤيته الأنبل والأشمل والأجمل والأعدل للحياة، وتهذيب حركتها ومنطلقاتها بل استشراف مستقبلها باعتبارهذاالمبدع ضمير ذلك المجتمع،أوهكذا يجب أن يكون، ولهذاهو كما يكشف ويستشرف،فإنه يجلد أحياناً إذا لزم الأمر، وهو ما ترفضه حياة خلت أو تخلت عن النبل والعدل وحتى الجمال، ويقاومه مجتمع أصبح فى معظمه لايريد سوى البريق المادى الاستهلاكى مهما كان زائفاً أو بلا قيمة دون منغصات من هذا الضمير.
لكن أيضاً من ناحية أخرى فإنه لايملك أحد أن يغفر للأديب والمبدع تراجعه أو تقاعسه أو تنازله عن أداء رسالته وتحمل مسئولياته، فالمبدع ليس مجرد إنسان موهوب يسعى لتجميل وجه الحياة فقط لكنه،وهذاهوالأهم، مسئول عن التفاعل مع هذه الحياة عبر رؤيته للأشياء فى عموميتها،وأيضا فى جوهرها الأعمق،والإسهام فى إعادة تشكيلها بشروط أفضل،وبعيدا عن تلك الرؤية وهذا الدور تتحول الحياة - كما نرى حولنا الآن- إلى سلع وآلات متناثرة فى محيط مهشم،لارابط بينها ولاسمات لها،ولاأنساق تجمعها،بل تصبح حياة مغلفة بما يشبه السطح البللورى المعتم ،الذى قد يعكس الضوء،لكنه يحجب الرؤية،ولايمكن النفاذ عبرهذه العتمة بعاديتها وتكراريتها،ولهاثها المادى القاتل إلا بقوة الرؤية الفنية والجمالية والأخلاقية والقيمية التى تميز الأديب والمبدع عن غيره،وتشكل أسس علاقته الناقدة الخلاّقة المستشرفة النبيلة، بهذه الحياة .
قضية تشكيلية
ـ إضافة إلى النقد الأدبى تكتب أيضا النقد التشكيلى كيف دخلت هذا المجال ؟
** قبل أكثر من عشرين عاما، وتحديدًا عام 1996 كنت أقطع مسرعا «كل يوم»، المسافة ما بين منتصف شارعى الجلاء، و26 يوليوبوسط القاهرة، بعد أن التحقت بمؤسسة الأهرام الصحفية وقتها، لكننى كنت أجد نفسى وبصورة عفوية أخفف الخطو، فور وصولى إلى تقاطع الشارعين، وتحديدا عند الناصية التى تضم هذا المبنى الضخم، الغامض،«مبنى القنصلية الإيطالية»،وكأننى كنت أخشى أن يجرح الخطو صمته المهيب،أو يخدش ضجيج السيرغموضه الساحر،وقد كنت محقًا، فداخل هذا المبنى بطرازه المعمارى الأوروبى الفريد، يقبع معهد ليوناردو دافنشى للفنون الجميلة والعمارة،ولأننى أعشق الاثنين: دافنشى أيقونة إيطاليا، والفن التشكيلى الإنسانى كله، كما أننى من محبى الفنون الجميلة،إلى درجة أننى حولت سطح منزلنا بمدينة أخميم بمحافظة سوهاج فى مرحلة مبكرة من العمر،وأنا بعدُفى خواتيم الدراسة بالمرحلة الثانوية إلى مرسم لفنانى أخميم الشباب،بالرغم من أننى لاأجيد الرسم، وأقمنا بما نتج عن هذه التجربة من لوحات ومنحوتات العديد من المعارض بالمدينة الجنوبية الصغيرة،وكانت هذه المعارض نقطة انطلاق للعديد من هؤلاء الفنانين نحو التحقق الفنى،وأذكر منهم :سميرالشريف،وسامى عساف،
وممدوح برى،وأسعد ابو شهاب،وعلام كامل،ورائف أديب إضافة إلى مبدعى فن الخط والزخرفة أشرف خلف الله عبد النبى،و محمد عبد الجابرالطباخ ،وطارق الخضيرى..وغيرهم من مواهب تألقت فى درب الفن التشكيلى فيما بعد.. ولأن كليهما اجتمعا معا «دافنشى والفن»، داخل هذا المبنى العريق، فكان لابد أن أخفف الخطو،مهما كنت متعجللًا،لكى تعانق عيناى هذه اللافتة النحاسية البديعة التى توجد بجوار إحدى بوابات المبنى من ناحية شارع الجلاء، وتحمل اسم دانتى أليجرى، ابن فلورنسا، المدينة التى تصادف أن احتضنت فى فترة ما الفرعون المصرى الموهوب محمد صلاح نجم كرة القدم العالمى حينما ترك صقيع :تشيلسى الإنجليزى، إلى دفء "فيورنتينا الإيطالى"،بالطبع ليست القاهرة وحدها التى تضم مؤسسة دانتى الثقافية،ففضلا عن كونها من أوائل مدن العالم احتضانًا للمؤسسة العريقة،بإنشاء معهد ليوناردو دافنشى بداخله فى مطلع ثلاثينيات القرن الماضى، فإن فرع القاهرة، تفرد وحده عن كل فروع الدنيا ولا نظير له فى العالم كله،
حيث ُأنشئ فقط لمصر، تقديراً لدورها الحضارى، وريادتها الإبداعية،ورغبة فى تبادل، وتوثيق العلاقات الثقافية الفنية، بين روما حاضرة أوروبا العريقة والقاهرة حاضرة إفريقيا الكبيرة،وليتمكن المصريون، أصحاب أول حضارة تشكيلية فى هذه الدنيا،من دراسة اللغة الإيطالية وفنون التصوير، والرسم والعمارة والنحت، والاقتراب بحميمية من الثقافة والفنون الإيطالية..وكان منطقيًا،وأنا القادم من أخميم كنز الحضارة المصرية بجدارياتها ومنحوتاتها ومسلاتهاومعابدها الفرعونية ومزاراتها الأثرية القبطية والإسلامية،التى جعلتها أيقونة فنية حضارية بأقصى صعيد مصرحتى وإن غلفها غبار الإهمال،وقد ودعتها قادماً إلى القاهرة محمللًا بعشق الفن التشكيلى،كان منطقيًا أن أصبح من دراويش المعهد ورواده المنتظمين، فظللت أتابع أنشطته،حتى بعيدًاعن فكرةالتغطية الصحفية،حيث نشأت صالونات وملتقيات فنية وفكرية وإبداعية مهمة، تجاورت وتمازجت من خلالها الحضارتان والثقافتان،مما جعل المعهد أحد الأرقام الجميلة التى أثرت فى تشكيل ذائقتى الفنية،إلى جانب كتابات كمال الجويلى وعزالدين نجيب،وإبداعات عبدالهادى الوشاحى وحسن غنيم وسيد القماش ومحسن شعلان وأحمد قبيصى وعاطف طلبة..ود.سمير عبد الفضيل..ويونس حسن وغيرهم ، خصوصا حين حرص المعهد على تقديم أنشطة ثقافية وفنية متنوعة بجوار دوره العلمى والفنى، مثل عروضه للأفلام الإيطالية والحفلات الموسيقية وتنظيم المحاضرات والندوات،والزيارات للأماكن الأثرية والتاريخية فى كل من مصر وإيطاليا، إضافة إلى ترجمة العديد من المراجع والكتب المهمة من الإيطالية إلى العربية، مما فتح أمامى نوافذ واسعة على الثقافة الإيطالية والأوروبية والعالمية ومثل كثيرمن الشباب المصرى والعربى الزائرأوالمقيم فى مصر،والأهم كان هذاهو المفتاح الأهم لدخولى عالم النقد التشكيلى من بابه الوسيع العريق،حيث التحقت بعدها بجمعية نقاد الفن التشكيلى،بتشجيع كريم من رئيسها الناقد الكبير كمال الجويلى،وكانت لى زاوية أسبوعية لمتابعة المعارض التشكيلية نقدياً بعنوان جولة المعارض،وتوليت لفترة مهمة المحررالعام لسلسلة آفاق الفن التشكيلى الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، وقد أسهمت مع الفنان والناقد عزالدين نجيب رئيس السلسلة فى إصدار عدد من الكتب المهمة،وكان لدينا مشروع كبيرلإصدار موسوعات توثق الحركة التشكيلية المعاصرة، ومعاجم تشكيلية..، لكن مع الأسف،أفسدتها- كالعادة- مؤامرة موظف صغيربالسلسة كانت مهمته متابعة المطبعة،فآثرت الاستقالة منها ترفعًاعن الصغار والصغائر، رغم محاولات الصديق العزيز الشاعر الراحل محمد أبو المجد،وكيل هيئة قصورالثقافة مصدرة السلسلة،
وقتها،بأن أكمل المسيرة بعد معاقبة هذا الموظف وإبعاده،لكننى اعتذرت له مقدرًا
موقفه النبيل،وبعدها قدمت عدة كتب ودراسات متنوعة فى النقد التشكيلى منها زهرة المندلية..وموقد النور،وضوء وظل..وغيرها.
- ما القضية التشكيلية التى تؤرقك حالياً؟
**تؤرقنى تلك اللحظة العبثية التى تعيشها شوارعنا ومياديننا ومدننا،حيث أصبحت الأماكن بداية من القاهرة العاصمة حتى أصغر بقعة في هذا الوطن نهباً للقبح والعشوائية على حساب الجمال والرقى الحضارى،صحيح الوضع أفضل كثيراً فى المدن الحديثة بل بعضها مثل العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين وزايد يضاهى أرقى المدن الأوربية،لكن الوضع فى المدن القديمة من سئ إلى أسوأ،رغم كل محاولات التحديث،وترقيع الثوب المعمارى الجمالى والحضارى،لكن أكثر مايؤلمنى أننا أصحاب حضارة تشكيلية فى الأساس، لانظير لمعابدها ومسلاتها وجدارياتها وبردياتها وتماثيلها فى العالم كله،ومع ذلك صرنا نقبل هذا القبح، وتلك العشوائية والفوضى كأمرواقع وقدر محتوم بلا جدال،وكأن ليس من حق هذا الوطن علينا أن يكون حضارياً وجميلاً،ولا من حق هذا المواطن أن يتذوق الجمال ويدرك قيمته ويجنى ثماره،ولا من حق هذا المجتمع ان يتمتع بمردوده الإيجابى على السلوك والأداء والتنمية،بل حركة الحياة فى عمومها،وربما هذا كله مادفعنى إلى بحث هذه القضية من خلال دراسة نظرية ميدانية أعدها الآن وربما تصدر فى كتاب قريباعن علاقة النحت الميدانى بالتنمية فور الانتهاء منها .
أزمة الصحافة
- أنت نائب رئيس تحريرمجلة الأهرام العربى فى مؤسسة الأهرام العريقة، ومشهود لك بأنك من المراجع المهنية المهمة ..كيف تتجاوزالصحافة الورقية أزمتها الراهنة فى تصورك؟
**أولاً أشكرك،أنا مجرد صحفى أسعى جاهداًمع كثير من زملائى الحقيقيين للحفاظ على ضوابط وأسس ودور ورسالة ومسئولية الصحافة،وتطويرها فى مختلف المسارات،لكن للصحافة بالطبع مرجعيات كبارمن أساتذتنا وكتابنا الكباريؤدون مهمتهم فى هذا السياق على أكمل وجه سواء فى الأهرام أم غيرها من المؤسسات الصحفية،ومن هذا المنظورأتصور أن الصحافة الورقية لكى تتجاوز أزمتها عليها باختصار أن تعمل على "أشكال وأنماط مابعد الخبرمن "تقاريروفيتشرات وبروفايلات"،وكذا على توفير الخدمات النوعية لقرائها،وأن تركز أكثر فى رسالتها الإعلامية على الصحافة التنموية لتعظيم مكتسبات الوطن، وعلى الصحافة الاستقصائية لحل عقبات التقدم والتنمية من خلال كشف مواضع الخلل وعلاجها،مع التركيز أكثر على التخصص المتميز،وفرادة العرض والتحليل،والاهتمام أكثربالصحافة المحلية،والأهم البعدعن هذا العداء المفتعل بين الوسائط الإعلامية بتعددها واختلافها،ليحل محله التكامل، فمثلا يمكننى نشر خبر عاجل عن عصابة تستولى على بطاقات التموين فى موقع الجريدةالرقمى لحظة القبض على هؤلاء اللصوص، ثم أنوه عن أن التفاصيل غداً فى الجريدة الورقية حول كواليس وخفايا
وملابسات الموضوع من خلال صحفيين مهرة،مع طرح فيديوهات فى بوابة المؤسسة عبرالعرض التفاعلى لعمليات القبض ومتابعة التحقيقات مع أفراد هذه العصابة،وبالتوازى فتح جدل مجتمعى واسع على صفحات وجروبات التواصل الاجتماعى الخاصة بالمؤسسة حول هذه القضية التى تهم كل بيت مصرى..ويفضل أن أستضيف معه عددا من المسئولين والخبراء من الجهات والأطراف المعنية مع تقارير فاصلة سريعة مع بعض الضحايا ومتابعة فورية للإجراءات ،كل هذا فى بث تفاعلى مباشرعبر التلفزيون الرقمى والإذاعة الرقمية للمؤسسة، بهذا صنعت حالة إعلامية متكاملة للحدث تتضافر فيها جميع الوسائط ،وتوظف فيها كل الوسائل الإعلامية المتاحة،لصالح المهنة والمجتمع،والدولة ذاتها بكل مكوناتها وأطرافها،هذا هو دورى ورسالتى ومسئوليتى المهنية، لكن هذا يحتاج إلى كفاءات ورؤية،وتكامل،وتجرد،والأهم البعد عن صراعات "الأنا"والمصالح والمكاسب الصغيرة،واستبعاد الكفآءات المهنية لسبب أولآخر،هذا ما أقصده بالتكامل بين هذه الوسائط لصنع ليس مجرد رسالة،بل حالة إعلامية- مجتمعية، لأن التنافر والعداء ليست أبدا فى صالح أى وسيط إعلامى ورقياً كان أو مسموعاً أو مرئياً أو رقمياً،وإن كانت الصحافة الورقية هى الأكثر تأثراًسلبيا،فلأنها الحلقة الأضعف الآن نتيجة المنافسة الشرسة من الإعلام الرقمى،حيث تغيرت الأدوار،أو تداخلت بين عناصر الاتصال،وبات المرسل "الاعلام"، والمستقبل "المتلقى "، يتبادلان الأدوار في كثير من الأحوال،حيث يمكن لأى فرد ،أياً كان، توجيه رسالته الاتصالية فى أى زمان ومن أى مكان،وإلى أى أحد ،بخاصة بعدأن تجمعت الخدمات الاتصالية في توليفة واحدة ،عبر جهاز الهاتف المحمول، وغيره معطيات الذكاء الاصطناعى التى تتطور كل ثانية ..فضلاً عن أن هدم أو تهميش بعض الكيانات الصحفية القديمة جاء عشوائياً والأخطر أنه هدم معه منظومة من المعايير والضوابط المهنية التى كانت تحافظ على المهنة وأصحابها كما أضاع –ضمن ماأضاع- جيل الوسط بما لديه من خبرات مهنية ومعايير وأخلاقيات تشكل منظومة مهنية متكاملة مع إلمام جيد بمقدرات التكنولوجيا الذكية،وكان هذا الجيل هو الجس الأمثل والأكثر أمانا لنقل منظومة الإعلام المصرى من الأجيال السابقة التى تملك الخبرات والمعايير المهنية ولاتملك التكنولوجيا الذكية باستثناءات قيلة بالطبع ،وبين الجيل الأحدث الذى يملك تكنولوجيا ذكية جدا لكنه ابتعد كثيرا عن المعايير والضوابط المهنية،وهو ماشاهدناه فى الكيانات الصحفية والإعلامية الجديدة ووالمواقع الموازية،حيث المذيع فاقد القدرات والصحفى فاقد المعايير، والمعد فاقد الضوابط،والجميع فاقد الوعى المهنى والدور والرسالة والمسئولية المجتمعية،فنحن هدمنا القديم ولم نبن جديداً يملأفراغه ،فملأ هذا الفراغ غيرنا، وخسرالإعلام ثقة ومصداقية مجتمعه،وخسر المجتمع لسان حاله،ومحاميه،وسلطته الشعبية فى مواجهة الخلل والانحراف والتقصير والفساد
،وبخسارة الإعلام فقد المجتمع "البوصلة"،وأصبح الجميع خاسراً..هذا لايمنع من بعض التجارب الناجحة مثل تجربة "مجلة الأهرام العربى"التى لاتزال حاضرة ومؤثرة،كذلك تجار فردية مثل تجربة "الرسالة"وبالطبع تجربتكم فى"النهار"تستحق التقدير دورا ومهنة وأداء ،وهذا ليس بغريب على تجربة يقودهاكاتب ومفكر وطنى كبير مثل الأستاذ أسامة شرشر،والكاتب القدير المهنى المبدع الصديق الأستاذ شعبان خليفة وفريق من أفضل وأنبه الصحفيين فى مصر،وقد شاهدت هذا بنفسى حين التقيت عبر المحاضرات وورش التدريب التى تشرفت بالمحاضرة فيها عبرمعهد نقابة الصحفيين أو معهد الأهرام الإقليمى بالأهرام،التقيت بنخبة شديد التميز والتفاعل الإيجابى من الصحفيين والصحفيات ابناء النهار الذين كانو فى الصدارة دائما،وهناك تجربة المصرى اليوم التى أسهمت فى بواكيرها وقبل الإصدار الفعلى مع الرائع الأستاذ أنور الهوارى كعضو مؤسس للديسك المركزى،كذلك أتوقع لليوم السابع مزيدا من التميز المهنى مع الزميلة القديرة علا الشافعى..واثمن أيضا تجربة الوطن،لكن تبقى هذه استثناءات نرجو أن تتحول إلى قاعدة تتسع فى المستقبل القريب لأن مهنة الصحافة بالفعل على المحك،ومؤكد لن يربح أحد بخسارتها.
- إذن ماالحل؟
الحل - كما أتصوره- أن تكون هناك إستراتيجية إعلامية،تنفذها منظومة متكاملة،على أن يكون هدف منظومة الإعلام التكاملية فى الأساس هوأن يسهم الإعلام فى بناء عقل الإنسان المصرى ،العربى بشكل مستنير ومتطور، وقائم على الإبداع والتفكيرالعلمى وبالتالى قادر على التعامل مع تحديات الواقع الراهنة والمستقبلية..وفى مرحلة أكثر تقدماً يصبح قادراً على إنتاج المعرفة،لا مجرد مستهلك للتكنولوجيا الواردة،وبهذا يسهم الإعلام فى بناء (المواطن /المؤسسة)الذى يجعل انتماءه وولائه لبلده وللصالح العام ،إدراكا منه أنه صاحب المصلحة الحقيقية فى هذا،وأن صالحه وصالح ابنائه جزء لاينفصل عن هذا الصالح العام ،عوضا عن (المواطن /الفرد)الذى هو سجين ولائه لذاته فقط ولو على حساب الصالح العام ذاته،وعند بناء هذا(المواطن /المؤسسة) سيصبح "هونفسه" قادراًعلى بناء كل شئ.
- تهتم فى أبحاثك بمجال جديد نسبياً لكنه وثيق الارتباط بالأدب والفن هو الاقتصاد الإبداعى ..ما السبب؟
**تصنف القدرات الإبداعية الخاصة فى أى مجتمع على أنها ثروات فوق التقييم .. وهذه الثروات هى التى تعطى لما يسمى بالاقتصاد الابداعى زخمه الخاص وجوهره،ومادته الأساسية .. وعلينا ألا ننسى واحدة من أهم حقائقنا،وهى اننا أمة نمتلك جينات إبداعية متوارثة عبر مزيج حضارى راسخ الجذور،متماسك المقومات، شديد التنوع والثراء، يندر توافره فى أمة أخرى،وفى ظل خيارات اقتصاديةعربية محدودة للغاية يصبح الاقتصاد الإبداعى مع خيارات قليلة أخرى مثل النانو تكنولجى، خياراً مصيرياً لايجوز تأخيره بعد الآن،ولايمكن إحالته إلى لافتة المستقبل (كعادتنا مع معظم قضايانا الحاسمة )، لأن الأمر ببساطة أنه لامستقبل لنا،ولن نجد حتى موطء قدم فى عالم المستقبل القريب،والقريب جداً، دون أن نقدم لهذا لعالم شيئاً،وهو مايستدعى البدء فوراً فى وضع هذا النمط الاقتصادى على رأس أولوياتنا،وبشكل علمى مدروس،ورغبة حقيقية فى الإنجاز، وتهيئة كل أسباب النجاح له وفى مقدمتها جميعا الاستثمار الجاد والحقيقى والعادل فى إمكانات الإنسان العربى وقدراته،ووضع ثروتنا البشرية فى المكانة اللائقة بها،باعتبارها أهم الثروات، بل قائدة الثروات الأخرى،والتعامل معها من منطلق أن الإنسان العربى هو صانع التنمية وبالتالى من العدل كل العدل أن يكون هدفها.
- هل لهذا أسهمت فى عدد من الموسوعات عن الحرف التراثية والتقليدية باعتبارها من أهم مكونات الصناعات الإبداعية المكون الرئيسى للاقتصاد الإبداعى؟
**أنت محق تماما ،فأنا كنت عضو مجلس إدارة ورئيس لجنة التراث بالاتحاد العربى للملكية الفكرية بمجلس الوحدة الاقتصادية الذى يعمل فى نطاق الجامعة العربية عدة سنوات، وكذا توليت مهمة المحرر العام لموسوعة الحرف التقليدية فى مصر،وتاريخياً كانت الحرف التراثية.. هي صناعة مصر الثقيلة حتى عقود قريبة..ومن ثم يجب أن تكون على رأس الأولويات فى إطار تدشين وتطويراقتصاد "إبداعى" ناهض وفاعل ، خصوصا بعدما هرب آلاف الحرفيين التراثيين من العمل فى هذا المجال نتيجة ارتفاع أسعار الخامات، والمنافسة غير العادلة مع المشغولات المستوردة خصوصاً من الصين، وعشوائية التخطيط وضعف الاستثمارات،بل اعتبار هذه الحرف من جانب البعض دليلاً علي الرجعية والتخلف ، برغم أن شعوب العالم الراقية تنبهت مبكراً إلى أهمية الحرف التقليدية "التراثية" كرافد ضرورى للتنمية، يمثل دخلاًكبيراً للمجتمع، وحلاً عملياً للبطالة، لكن مع الأسف هذه الحرف تعانى الإهمال وسوء الاستغلال، وبالتالى أضعنا إمكانات هائلة للتنمية الثقافية عبر محرك الاقتصاد الإبداعى،بالرغم من أن الاستثمارفى هذه الحرف لا يحتاج الى تراكمات راسمالية ضخمة،لأنه مثل معظم مجالات الاقتصاد "الإبداعى" يعتمدأساساً على الإبداع البشرى ويستخدم،فى الغالب، الإمكانات والموارد المحلية المتوافرة ,مما يمنح هذه الحرف التنوع الإنتاجى,خصوصا إذا ما تم تصنيفها وتنظيمها كأقاليم حرفية تنموية متكاملة،إلى جانب أن الاستثمار فى الحرف التقليدية والفنون التراثية ، يعمل على تحقيق مجموعة من الأهداف الحيوية الاخرى أبرزها أن هذه الحرف تشكل العنوان الحقيقى لهوية الأمة الثقافية فى ظل اجتياح قيم وثقافات وتشوهات العولمة, ومن ثم أصبح الحفاظ عليها،إضافة إلى البعد التنموى،قضية وجود.
- البعض يتهم المشهد الإبداعى في مصر الآن بالضحالة والضعف.. ما ردك ؟
**تاريخيا مصر تنفرد بمزايا تكاد تكون مطلقة فى مجال وحيد هو الثقافة والإبداع بمفهومهما الشامل،من هنا فالمشهد الإبداعى فى مصرالآن شديد الثراء،وسيظل، ويقدم عبر منتدياته وفعالياته الرسمية والأهلية ألوان الطيف الإبداعى بشكل فاعل ومؤثر مهما حاولت الادعاءات أن تظهره بصورة الهش أو الذى أوشك على النضوب ، لكن المشكلة فى أن مايطفو على السطح خصوصا الإعلامى ليس هو جوهر المشهد الإبداعى الحقيقى،بل الوجه الردىء أو الزائف لعملته..مثل أغانى المهرجانات التى أفسدت الذوق المصرى بقسوة وعنف،وأثمن هنا دورنقابة المهن الموسيقية ونقيبهاالسابق الفنان الوطنى المحترم "هانى شاكر" فى التصدى لهذا الطوفان من الضجيج القبيح، الذى لم تكن مصادفة أبدا أن يتحالف مثلاً مع "التوك توك"فى نشر هذا الإزعاج والإسفاف والانحدار الأخلاقى والترويج عبر الكلمات الهابطة وإيقاعات الردح العلنى للإباحية والمخدرات والعنف،من خلال هذا الثنائى،وكليهما هابط، ودخيل على المجتمع المصرى..ومقاومتهما،واجب وطنى لحماية ما تبقى من قيم الشارع المصرى والذوق العام..ولست أدرى لماذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة مع هاتين الآفتين طوال العقود الماضية،لماذا مثلاًلايتم تحويل هذا "التوك توك" إلى "تروسيكل"بإلحاق شاسيه مناسب به،وتمليكه لأصحاب عربات "الكارو"وبكوارثها المعروفة وإلحاق ما يصلح من الأخيرة بعمل متاحف للمركبات القديمة فى كل المحافظات تكون بمثابة مزارات سياحية وثقافية لهذا اللون من وسائل التنقل والنقل،مع استخدام"التروسيكل" وسيلة نقل حضارية خصوصا فى الحارات الصغيرة والضيقة، واستبدال التوك توك بعربات صغيرةلنقل الركاب داخل القرى وبعض المناطق الشعبية تقاربه فى الحجم لكنها آمنة وآدمية،ثم تقنين ذلك كله على كل المستويات بما يدر مليارات سنويا على خزينة الدولة كان معظمها يضيع فى الرشاوى وغض الطرف عن المخالفات،والأهم إعادة تأهيل قادة هذه المركبات مهنيًا وأخلاقيًا وثقافيًا يحمى المجتمع من شرور هذا "التوك توك" بكل أنواعها وألوانها وفى مقدمتها تلك الثقافة الرديئة التى حولت حياة المجتمع المصرى إلى جحيم يومى.
ـ بصفة عامة ..ماذا ينقص الحياة الثقافية في مصر ؟
تفعيل المعايير،والانحياز للقيمة،والتنظيم،والعدالة الثقافية الرأسية فى المناصب والجوائزوغيرها،والأفقية فى الذهاب بالحق الثقافى إلى أصحابه القابعين فى القرى والنجوع والكفوروالحوارى والأزقة بطول مصروعرضها،والمساواة فى الخدمات الثقافية الأساسية بين مراكزها وهوامشها،والربط الثقافى الحضارى الحقيقى بين قلبهاوأطرافها،والانحياز للقيمة عوض الضجيج والفوضى، وإعادة توصيف وترتيب العديد من الأوراق المختلطة فى المشهدين الإبداعى والنقدى على السواء،والانحياز
للمستقبل على خلفية استلهام المناسب من الماضى، فى إطارروح العصر، وتغليب العقل على الخرافة، وتحديد الموقع،والموضع من الآخربمنهج علمى وعقلانى،
وتاهيل العقل الإبداعى للعمل نحوإنتاج المعرفة لا مجرد استهلاك التكنولوجيا،و فى اتجاه حل المشاكل،لا صنع المزيد منها،مع اعتبار الثقافة القطاع القائد الذى يمثل رأس حربة التنمية والتطويروالتقدم،فكما قلت، وأردد دائما،"من الثقافة يبدأ وينتهى كل شئ".