أسامة شرشر يكتب: دبلوماسية الغاز.. إلى أين؟!
أزمة الغاز إلى أين؟
نحن نعيش فى عالم مضطرب لا نعرف أين تتجه بوصلة الصراع القادم فيه، ولا شك أن الصراع على الغاز سيرسم خريطة جديدة للعالم، ليس فى أكثر مناطق الصراع اشتعالًا وهى منطقة شرق المتوسط فحسب، ولكن فى معظم مناطق العالم إذا لم يرتفع صوت العقل ويتم وضع حدود عادلة تكفل لكل دولة حقها فى مواردها، وخصوصًا الغاز الطبيعى، لأن بعض التقديرات تؤكد أن احتياطيات الغاز المؤكدة فى العالم تبلغ 6923 تريليون قدم مكعبة، وهذا يعنى أن مخزونات العالم من الغاز الطبيعى المكتشفة حتى الآن تكفى لنحو 52 عامًا فقط عند مستويات الاستهلاك الحالية، ولهذا سيسعى العالم لمزيد من اكتشافات الغاز، وعلى كل دولة أن تحافظ على غازها، ولو تطلب الأمر صراعًا مسلحًا وهو أمر أصبحت تعرفه كل الدول.
وليس أدل على ذلك مما حدث خلال بداية شهر أغسطس الحالى من تقارب سفينتين حربيتين، إحداهما تركية والأخرى يونانية، بشكل كبير فى شرق المتوسط، ومسارعة فرنسا بإرسال سفن حربية إلى المنطقة لمؤازرة أثينا ما كاد سيؤدى لمواجهة عسكرية جديدة تفوق فى خطرها الحرب الروسية الأوكرانية التى أعتبرها بروفة لما يمكن أن يحدث إذا تصاعد الصراع على الغاز، فقد ارتبطت الحروب والنزاعات الدولية، بما فيها الحملات الاستعمارية، بالرغبة فى السيطرة على الثروات، خاصة مصادر الطاقة بداية من مناجم الفحم، والذهب، والألماس، واليورانيوم، والبترول وأخيرًا الغاز، وكل القوى العظمى يشغلها الآن الحفاظ على أمنها الطاقى، للحفاظ على أمن واستقرار هذه الدول.
وأى مراقب للأوضاع يدرك أن الصراع على مخزونات الغاز فى شرق المتوسط يتصاعد بشدة فى الفترة الأخيرة تحت تأثير الحرب الروسية– الأوكرانية التى كشفت أهمية الغاز كمصدر للطاقة فى هذه الفترة.
ويكفى أن أشير إلى أن الخلاف بين تركيا واليونان وقبرص تمتد جذوره لحوالى 100 عام، لكنه ظل كامنًا حتى بدأ اكتشاف غاز شرق المتوسط والمخزون الاحتياطى الكبير فيه، ليبدأ النزاع حول المنطقة الاقتصادية بين الجزر اليونانية والسواحل التركية، وهو الصراع الذى إذا استفحل سيمتد بآثاره لكل منطقة شرق المتوسط بل كل العالم بحكم تشابك العلاقات الدولية وتعقيداتها.
وتدخلت مصر مؤخرًا لمحاولة نزع فتيل النزاع التركى اليونانى وكذلك الملف الساخن الليبى التركى، ومثله النزاع التركى القبرصى، قبل الانفجار، خصوصًا أن المنطقة لا تحتمل صراعات جديدة، فى ظل أزمات أخرى تلوح فى الأفق بسبب الغاز الطبيعى، بين لبنان وإسرائيل، وبين دول الخليج العربى وإيران، فبالرغم من محاولة التقارب الإيرانى الخليجى فإنه فيما يبدو أن الغاز خط أحمر للجميع وقابل للاشتعال فى أى لحظة، ما يجعلنى أحذر من خطورة هذا الملف الذى أدركت مصر خطورته مبكرًا، وسارعت بعد ثورة 2013 بترسيم حدودها والحفاظ على ثروتها من الغاز؛ لأنه مستقبل البلد وملك الأجيال القادمة.
وأستطيع أن أقول إن الصراع قد يتمدد، خاصة مع دخول ليبيا كطرف فى النزاع وبؤرة الصراع، حيث يسعى الجميع للفوز بالغاز الليبى سواء إيطاليا أو فرنسا أو تركيا.
أعتقد أن دبلوماسية الغاز التى تقودها مصر من خلال اتفاقية ترسيم الحدود، من خلال وزير البترول النشط وكتيبة العاملين معه، للتأكيد على ترسيم الحدود والحفاظ على كل مناطق الغاز المصرية فى حوض البحر المتوسط، وتنفيذ تعليمات القيادة السياسية، أثبتت جدواها، وأعتقد أن مصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة، المؤهلة لتقريب وجهات النظر بين الجانب اليونانى والقبرصى من جهة والجانب التركى من جهة أخرى، لأنها الدولة الوحيدة التى ليس لها مصالح لدى الطرفين، وهى قد أثبتت حسن نواياها باحترامها لترسيم الحدود مع الجانب التركى وقت أن كان الخلاف مشتعلًا معه.
وهو ما يجعلنى على يقين من أن اللقاء الذى سيتم قريبًا سواء فى القاهرة أو فى أنقرة بين الرئيس السيسى والرئيس أردوغان، سيكون علامة فارقة فى تقريب وجهات النظر فى كثير من الملفات الشائكة، وخاصة ملف الغاز، بين الجانب اليونانى والجانب التركى.
فدعونا نقل إنه بعيدًا عن التدخل الفرنسى الداعم لليونان ضد تركيا، وكذلك الجانب الأوروبى والأمريكى، نجد أن مصر تلعب دورًا حاسمًا فى حسم هذا الخلاف الشائك الذى قد يؤدى فى لحظة ما إلى حرب بين الدولتين، لا نعرف مداها.
فإذا نجحت مصر فى فك فتيل الأزمة المشتعلة بين الجانب التركى والجانب اليونانى سينعكس هذا الحل على منطقة الشرق الأوسط بأسرها وعلى دول حوض البحر المتوسط، لأن العالم أصبحت ملامحه الجديدة تتحدد فى إطار المكاسب والمصالح الاقتصادية، وما يجرى الآن فى النيجر من تدخل عسكرى محتمل لدول إيكواس، بضوء أخضر من أمريكا وفرنسا حول اليورانيوم فى النيجر، يعطى دلالة خطيرة بأن غرب إفريقيا أيضًا على حافة التوتر والاشتعال.
وما يجرى فى السودان من صراع نفوذ حول مناجم الذهب التى كانت سببًا فى اشتعال الصراع بين الجيش السودانى والدعم السريع يعطى مؤشرًا خطيرًا بأن الثروات أصبحت سببًا من أسباب اشتعال المواقف، وما يجرى الآن من نزاع حول إحدى آبار النفط بين الجانب الإيرانى والجانب الكويتى والسعودى، وعلى الجانب الآخر من الضفة الخليجية نجد صراعًا يدور بين الجانب الإماراتى والجانب الإيرانى.
لكل هذا؛ على مصر أن تكون لاعبًا فى فك هذه الأزمات لأنها ستشعل المنطقة وتؤثر على الأمن القومى المصرى والعربى، وأمن البحر المتوسط من جهة أخرى والأمن الإفريقى من جهة ثالثة.
فصراع المصالح الاقتصادية أصبح أكثر تأثيرًا من الصراع العسكرى؛ لأنه يخلق أزمات بين الأمم والدول والشعوب، وما أحوجنا اليوم إلى صوت الحكماء والعقلاء فى مصر وعلى مستوى العالم لاحتواء نيران الاشتعال فى كثير من النزاعات العربية أو الإفريقية أو الدولية!.
والسؤال: هل تنجح مصر فى الملف التركى واليونانى؟ هذا ما ستجيب عنه الساعات والأيام القادمة.
فدبلوماسية الغاز إذا فشلت ستؤدى إلى حرب ستقضى على البقية الباقية من الاستقرار فى منطقة حوض المتوسط والشرق الأوسط وإفريقيا.
وأقولها بأعلى صوت من أعلى مئذنة فى قاهرة المعز والأزهر الشريف:
اتقوا الله وارحموا شعوبكم
يرحمكم الله.